(شبكة الرحمة الإسلامية) – مقال قيم للشيخ أبي محمد المقدسي حفظه الله و فك الله أسره بعنوان: “توجيهات تربوية (1) : “الإنصاف حلة الأشراف، والأشراف أقل الأصناف”
بسم الله الرحمن الرحيم
آلمني كثيرا أن لا يستوعب بعض إخواننا مدلول عنواني أعلاه وأن يغيب عنهم، مع أن أدلة الكتاب والسنه تدعو إلى العدل والإنصاف، وذلك في تناولهم الإخوان المسلمين في بياناتهم وكتاباتهم وخطاباتهم بالطعن والثلب والتحقير، في وقت نكبتهم وابتلائهم وتسلط نظام الكفر وجيش الطاغوت في مصر عليهم؛ قتلا ومطاردة وسجنا وتعذيبا وتعرضا لنسائهم وبناتهم وأخواتهم اللاتي هن أخواتنا وأعراضنا، يسوؤنا ما يسوؤهن ويؤلمنا ما يؤلمهن، وتسليط كلاب الطواغيت وأحذية السلطان من إعلاميي قوم لوط عليهم ليطبقوا عليهم إستراتيجية إعلام سدوم وعمورية التي قوامها الكذب والافتراء وتشويه الخصوم بجريرة أنهم أناس يتطهرون !!
فساءني والله سوء التوقيت الذي جعل إخواننا هؤلاء يبدون كالمصطفّين بغير قصد إلى صف الظالمين والطواغيت والمرتدين في هجمتهم على كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، كما ساءني أكثر عدم الإنصاف في بعض ما وصلني من تلكم الكلمات والبيانات التي جعلت الإخوان شرا من العلمانيين والمرتدين من الإنقلابيين وحكمت عليهم بأنهم من جملة الطواغيت – هكذا.
مع أن الواجب عليهم كان ليس فقط أن يكفّوا ألسنتهم في هذا الظرف العصيب ويتركوا المشاركة في الهجمة عليهم وحسب، بل وجب عليهم قول الحق والإنصاف، ونصرتهم بحسب المستطاع فيما يستحقونه من النصرة والموالاة، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)) ، وقال سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)).
كما دعانا سبحانه في كتابه وعلّمنا الإنصاف حتى مع الكفار، فمن باب أولى مع الطوائف والجماعات المنتسبة للإسلام، حتى وإن خالفناهم وخالفونا في أمور وأمور، فقال تعالى مفرقاً بين أصناف إهل الكتاب: ((وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً))، فتأمل كيف فصّل ولم ينسب هذا الخلق السييء إليهم جميعاً، مع أن عند جميعهم ما هو أسوأ منه .
وقال تعالى: ((وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ))، ففرّق تعالى بين الذين ظلموا وغيرهم.
وبيّن لنا أن منهم من يجادَل بالتي هي أحسن، ومنهم من يجالَد بالتي هي أقوم، وبين تأخير اللام وتقديمها – لمن يستحق ذلك – عدل عظيم وإنصاف مبين.
وفي سورة الممتحنة فرّق سبحانه بين من قاتلونا في الدين وأخرجونا من ديارنا أو ظاهروا على إخراجنا، وبين من لم يفعل ذلك من الكفار، ولذلك فرّق رسولنا صلى الله عليه وسلم في معاملاته وسيرته وطريقته وهديه مع من حارب الله ورسوله وآذى المؤمنين كعقبة بن أبي معيط وأمثاله، وبين من أجاره ونصره وسعى في نقض صحيفه الحصار التي أبرمتها قريش كالمطعم بن عدي و أبو البختري، حتى قال صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر: (لوكان مطعم بن عدي حياً، ثم كلَّمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له) .. أيُّ شكر هذا وأيُّ إنصاف في الحديث حتى عن مشرك وثنى كان قد أعانه وأجاره في وقت من الأوقات، فكافأه صلى الله عليه وسلم بهذا الموقف حتى بعد وفاته، وقال فيه هذه المقاله.. وهذا الإنصاف الذي هو مزية الأشراف .. فمن باب أولى إن كان الحديث عن مسلمين لهم حق من الموالاة لا يخرجون منها ما داموا داخل دائرة الإسلام.
ولذلك، علّمنا الله تعالى في مقابل ما طلبه منا من براءة كامله من الشرك وأهله كما في قوله: ((قدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ)) فإنه سبحانه قال في شأن المؤمنين: ((وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ )) فتأمل الفرق بين البراءة الكاملة من المشركين والبراءة الجزئية من المؤمنين والمتمثلة بالبراءة من معاصيهم فقط ، دون البراءة منهم أنفسهم.
هذا الفرقان يمثّل العدل والميزان والإنصاف، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصى أحد أصحابه لا يتجاوز في عقوبته الحد الذي حده الله لأمثاله، ويشهد حتى للعصاة منهم بالحق الذي يستحقونه، فلا تُضيّع معصيتهم – ولو كانت من الكبائر- حقوقهم ولا تخرجهم من دائرة المولاه الإيمانية، فلما رجم الغامدية في الزنا ورماها خالد بن الوليد بحجر في رأسها فنضح دمها على وجهه فسبّها، قال له صلى الله عليه وسلم: ( مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغُفر له ) ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت، رواه مسلم وأحمد وابو داود .
وفي روايه لمسلم أيضا أن عمر قال للنبي صل الله عليه وسلم: ( أيصلى عليها ) فقال: ( لقد تابت توبة لو قُسمت بين أهل المدينة لوسعتهم ) .
وفي رواية هل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله .
الله أكبر .. ما أجمله وأكمله من عدل وإنصاف! خطيئتها شيء وحقها وإنصافها شيء، لا يضيع رغم خطيئتها، إن هذا هو العدل الذي أمرنا الله تعالى به في كتابه: ((وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى )) .
فهل قول من قال بعد نكبة الإخوان في مصر بأن “الإخوان شر من العلمانيين والمرتدين” عدل وإنصاف!؟ وهل من يطلق مثل هذه الإطلاقات على عواهنها – إذا لم يتق الله ويضبط نفسه- بالقول السديد – قادرٌ على أن ينصف الناس ويحكم بينهم بالعدل إذا ما تسلم زمام الأمور، وفي الناس من العوام والعصاة والخاطئين والمخالفين والفساق وغيرهم ممن هم شر من الإخوان !؟
إن من تابع ما فعله علمانيو مصر بالإخوان المسلمين – رجالهم ونسائهم، شيبهم وشبابهم – ورأى عدواتهم للإسلام بل حتى لإسمه، وحربهم للشريعة بل حتى لرسمها، ليعلم أن مثل هذه الإطلاقات والتصريحات النارية؛ تصريحات ظالمة لم يراعِ من أطلقها حرمة هؤلاء المسلمين وحقهم، ولا راعى مصابهم ونكبتهم التي يمرون بها، وساوى بين من يحاربون دين الله ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، وبين المسلم الطائع أو العاصي، وليس هذا من العدل والميزان الذي قامت به السموات والأرض.
فلتعلم الدنيا كلها أننا لا نُكفِّر الإخوان المسلمين، بل هم عندنا مسلمون وإن خالفونا في كثير من المسائل بعضها في المنهج والأصول, فهم وأتباعهم وأنصارهم ومُؤيدوهم بالألوف على مراتب شتى, فيهم العالم وفيهم الجاهل، وفيهم المطيع وفيهم العاصي، وفيهم المتعلم وفيهم العامي، ومنهم من تلطخ ببعض نواقض الإسلام من حكم بغير ما أنزل الله أو مشاركة في التشريع، أو أقسم على احترام الدساتير الكفرية أو أثنى على القوانين الوضعية وقُضاتها ومحاكمها، ومنهم من لم يقارف شيئاً من ذلك، وكلّ يُعامَل بما يستحقه، ولا يجوز أن يُتجاوز فيهم حدود الله بأن يُعامَلوا جميعهم بمعاملة من نراه قد قارف بعض النواقض، فيؤذى الخليُّ منها بجريرة المتلطخ بها، فليس هذا من العدل في شيء، خصوصاً وأنهم ليسوا طائفه محاربه ولا ممتنعه بشوكة، بل هم طائفه مُحَارَبه – بفتح الراء – لأجل ما عندها من إسلام ودين، فلا يجوز -والحالة كذلك- أن نعصي الله فيهم وإن عصوه فينا، ولا أن نبهتهم وإن بهتَنا بعضهم وظلمونا ووصفونا بالإرهابيين أو التكفيريين، فلا نظلمهم وإن ظلمونا، بل نطيع الله فيهم وإن عصوه فينا، ونتّقه في العدل معهم والإنصاف وإن ظلَمنا بعضهم ولم يتق الله فينا.
هكذا يجب أن تكون صبغة تيارنا، وهكذا ينبغي أن يكون نهج أبنائه وأخلاق قادته ومشايخه ومرجعياته، فهم أحق الناس بالعدل في الناس إذ يظلمهم الناس، وهم أولى الناس بإنصاف الناس إذ يبهتهم الناس، لأن من تجرع الظلم ينبغي أن يكون من أشد الناس بغضاً له وفرارا من التخلق به، ومن ذاق ويلات الافتراء عليه ولظى بهتانه من الخصوم الظلمه والأنظمه المفترية الكافرة، ينبغي أن يكون من أبعد الناس من خلق الافتراء والبهتان، وأبغضهم لهذه الأخلاق، وأحرصهم على العدل والإنصاف.
هكذا هو ديننا، وهذه هي أخلاقنا؛ نعامل الناس بها ولا نعاملهم بخلقهم هم، وليس من المروءة ولا من الرجولة أن نشمت بمخالفينا من المسلمين في مصابهم وتسلط أعداء الله عليهم وانتهاكهم لحرماتهم، فمن عاداهم لإسلامهم الذي يصفه بالمعتدل، هو أشد عداوة لنا ولإسلامنا الذي يصفه بالمتطرف والمتشدد والإرهابي، ومن وقع تحت أيدي وألسنة أعداء الله من أبناء هذا التيار؛ يقدر ما أقول ويعرفه حق المعرفة. وإن من أوثق عرى الإيمان التي تعلمناها وما فتئنا نُعلّمها وندعو إليها؛ أن يوالى المسلمون كلُّ بحسب ما يستحقه من الموالاة؛ بحسب قربه من الدين وطاعته، وأن نفرق بين المسلمين والمجرمين، وأن نُميّز بين أهل الإسلام وأعداء الإسلام، وحتى العصاة والفجار من المنتسبين للإسلام لا نظلمهم أو نتجاوز فيهم حدود الله، فللفاسق الملي حق من الموالاة والنصرة لا يزول مالم يخرج من دائرة الإسلام، بل إن الله علّمنا الإنصاف في مَن هم شر من ذلك، فتراه سبحانه يفصّل حتى في المنافقين ولم يُقوّلهم جميعاً قول بعضهم، ولا أحملهم جميعاً مسؤولية فعل بعضهم، بل ترى القرآن يقول: ((وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ ))، ((وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ))، ((وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي ))، ((وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ))، ((وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ))، ((وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ))، وهكذا، ومنهم.. ومنهم..
وكذلك فصل في الأعراب فقال: ((وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ))، وقال: ((وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ )) ، ففرّق وعدل وميّز، وهو أهل العدل والتقوى والمغفرة، وهذا كله ليُعلمنا العدل والإنصاف والتمييز والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
فلا يجوز وضع الجماعات الإسلامية – الإخوان المسلمين أو غيرهم – جميعاً في كفة واحدة وحكم واحد، وتحميل من لم يقارف ناقضاً مسؤولية من قارفه، ولا حتى من قارفه متأوّلاً غير ممتنع بشوكه ولا محارب للدين، بمن قارفه عامداً وممتنعاً بشوكه ومحارباً للدين وأهله.
ولذلك كله؛ فليس من العدل مساواة الإخوان بالعلمانيين وأعداء الدين المحاربين، ومن أراد الخير فأخطأه ليس كمن أراد الباطل فأدركه أو لم يدركه.
ولقد أزعجني أيضاً التوقيت السيّئ الذي صدرت فيه تلك الإطلاقات الجائرة التي لم تراع نكبة المسلمين في مصر، وما حل برجالهم ونسائهم وصغارهم وكبارهم؛ من تآمر وتسلّط ومطاردة واعتقال وتكميم للأفواه، وانتهاك للحرمات، واجتماع شذاذ الآفاق عليهم، وتظاهرهم على استئصالهم بدعم أموال طواغيت الخليج وأحذية الأمريكان.
فلقد كان زواري يخبرونني بما فعله جيش الطاغوت في مصر وأولياؤه من أعداء الأسلام بمختلف أسمائهم وأشكالهم، وفي الوقت نفسه يحدثونني بتصريحات أؤلئك المصرّحين والكتاب هنا وهناك فأصاب بالغثيان، وأعجب من فقدان الحكمه والتوفيق والقول السديد، وأتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم في غنائم حنين لما أعطاها لقريش فقال صلى الله عليه وسلم معتذراً للأنصار معللاً فعله ذاك: ( أن قريشاً حديثو عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبُرَهم وأتألفهم ) رواه الترمذي.
فتأمل مراعاته للمصيبة، والمقصود بها نكبتهم بفتح مكه وانتصار المسلمين عليهم .. فتأمل هذا الخلق العظيم، مع أن نكبة قريش ومصيبتهم كانت على يد أعدل الخلق، فكيف حين تكون النكبة لمسلمين على أيدي أعداء الدين؟ أليس جبر خواطر المسلمين ومراعاة مصيبتهم في مثل هذه الحالة أولى وأجدر.
أخيراً؛ أدعو إخواني إلى تأمّل ما كتبه شيخنا إبن تيمية في صدر الجزء الرابع من فتاواه، وكيف أنصف حتى الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة، وذكر لكل فرقة ما عندهم من المحاسن رغم مخالفاتهم الشديده لأهل السنة والجماعه، فذكر أن للمعتزلة ما يُستحمدون به من ردهم على الرافضة بعض ما خرجوا فيه عن السنة والحديث؛ من الطعن في إمامة الخلفاء وعدالة الصحابة والغلو في علي.
وأنصف الشيعة الأوائل؛ فبيّن أنهم يرجحون على المعتزله بما خالفوهم فيه من إثبات الصفات والقدر والشفاعة، وكانوا يُستحمدون بما خالفوا فيه الخوارج من تكفير علي وعثمان وغيرهما وما كفّروا به المسلمين من الذنوب، ويُستحمدون بما خالفوا فيه المرجئة وإن لم يهتدوا إلى السنة المحضة.
كما أنصفَ متكلمة أهل الإثبات؛ مثل الكلابية والكرامية والأشعرية، وذكر أنهم يُستحمدون بما أثبتوه من أصول الإيمان، والرد على الكفار والمشركين وأهل الكتاب، وبيان تناقض حججهم، وكذلك استُحمدوا بما ردوه على الجهمية والمعتزلة والرافضة والقدرية من أنواع المقالات التي يخالفون فيها أهل السنة والجماعة، ثم ذكر الأشعري وما وافق فيه أهل السنة والحديث، وقال: ” لكن الموافقة التي فيها قهر للمخالف وإظهار فساد قوله، هي من جنس المجاهد المنتصر، فالراد على أهل البدع مجاهد، حتى كان يحيى بن يحيى يقول: الذب عن السنه أفضل من الجهاد، والمجاهد قد يكون فيه فجور كما قال النبي صل الله عليه وسلم: ( إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم ) ولهذا مضت السنه أن يُغزى مع كل أمير براً كان أو فاجراً. والجهاد عمل مشكور لصاحبه في الظاهر لا محالة، وهو مع النية الحسنة مشكور باطناً وظاهراً، ووجْه شكره نَصْره للسنة والدين، فهكذا المنتصر للإسلام والسنة يُشكر على ذلك من هذا الوجه، فحمدُ الرجال عند الله ورسوله وعباده المؤمنين بحسب ما وافقوا فيه دين الله وسنة رسوله وشرعه من جميع الأصناف” … إلى أن ذكر فقهاء العراق وإنكارهم على من لعن الكلابية والأشعرية ونحوهم، وقولهم بتعزير من لعن علماءهم، وعلَّل بعضهم ذلك بأنهم طائفه من المسلمين، وبعضهم علّل بأن لهم ذبّاً ورداً على أهل البدع والمخالفين للسنة.. إلى أخر كلامه (4/13 _15). (1)
فلنتعلّم من شيخنا رحمه الله تعالى العدل والإنصاف، حتى مع الطوائف المخالفة لنا والتي لم تأل جهد في الطعن فينا ومخاصمتنا، وأن لا نعصي الله فيهم وإن عصوا الله فينا وأن لا نظلمهم وإن ظلمونا، وأن لا نبهتهم وإن بهتونا، فكم سمّت هذه الفرق أهل السنه بالحشويه والمشبهة والمجسمة والنواصب والخوارج وغير ذلك من المسميات التي أهل السنه منها بُرآء، ومع ذلك فتأمل إنصاف شيخ الاسلام في ذكر الجوانب التي يُستحمدون فيها وعدم ظلمهم فيها.
فلنتعلم العدل والإنصاف مع القريب والبعيد، والموافق والمخالف، والعدو والصديق، ولا يجرمنّا شنآن قوم أو يحملنا على ترك العدل والإنصاف، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا حكمتم فاعدلوا وإذا قلتم فأحسنوا..) رواه الطبراني في الأوسط.
وفي غزوة الحديبية، لما أبت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم أن تسير، وقال الصحابه: خَلأت القصواء, (يعني حرنت وبركت وأبت أن تسير من غير علة) , فقال النبي صلى الله عليه وسلم مدافعاً عن دابته: ( والله ماخلأت القصواء، وما ذاك لها بخلُق بل حبسها حابس الفيل ).
فتأمل كيف يعدل النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام والقول حتى مع البهيمة العجماء، وينصفها ويأبى أن تُظلم أو توصف بوصف ليس فيها، فلنتقِ الله ولنقل قولاً سديداً، ولنتقِ الله في المسلمين المنكوبين الذين يتسلط عليهم ويتآمر الطواغيت والمرتدون وأنصارهم، ولا نسلمهم لهم ولا نخذلهم أو نظلمهم؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية (لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه، التقوى هاهنا – وأشار إلى القلب – بحسب إمرئ من الشر أن يخذل أخاه المسلم ).
وروى الامام احمد وغيره أن النبي صلى الله عليهم وسلم قال: ( ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته ).
فلنكُن قوامين لله شهداء بالحق، ففي الحديث الذي يرويه الإمام أحمد وغيره ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة ) .
ختاما: لا أحب لإخواني أبداً أن يشابهوا خصومنا من أهل التجهم والإرجاء الذين اختلت عندهم بل تحطمت عند بعضهم موازين الولاء والبراء، والذين كثيرا ما كانوا يفرحون بتسلط أعداء الله من أنصار الطواغيت على بعض إخواننا ويشمتون باعتقالهم لهم ولسجنهم، بل وبقتلهم أحيانا، فبعضهم يقول: ( أحسن ) وآخر يقول: ( يستاهل .. زين يسون فيه!! أراح الله منه )، هذا غير الدعاء عليه وبهتانه، وعندما كان يذكر لي بعض إخواننا فرحهم هذا وشماتتهم، كنت اقول: هذا ليس من المروءة ولا من الرجولة فضلا عن ان يكون من الدين في شيء، هؤلاء القوم لم يذوقوا طعم الموالاة والذلة للمؤمنين، وما أشبههم بالخوارج الذين يحاربون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان.
أربأ بإخواني أن يشابهوا هؤلاء، وقطعا إخواني ليسوا كهؤلاء .
وكنت أستذكر مثلا قاله لي مرّة أحد عساكر القوانين من حراس زنازين سجن المخابرات حين رأى حالي في زنزانتي على إثر خروجي من ساحة التعذيب، فوقف ينظر إلي من طاقة زنزانتي، فنظرت إليه بنظرة تحدٍّ لما ظننته يشمت بي، فقال مظهراً التعاطف: ” ليس شجاعا ذلك الذي ينبح على أسد قتيل أو جريح أو محصور خلف القضبان” !! .
وكتب ابو محمد المقدسي ذو القعدة 1434 هـ
الهامش:
(1) أوردت كلامه هذا بلفظه لأعرِّف أننا لا ننكر الرد على أخطاء الإخوان أو غيرهم ولكن بعدل وإنصاف ،وكتبنا بفضل الله مملوءة بالردود على كثير من أخطاء وانحرافات أهل البدع القديمة والمعاصرة .-هـ!-
المصدر: منبر التوحيد و الجهاد