يمر علينا شهرالصيام شهرالصبر والثبات وإخواننا في غزة لا زالوا حديثي العهد بالمصاب الذي أصابهم وأصاب إخوانهم في مسجد ابن تيمية ، ويشاركهم المصاب بصور أخرى إخوان لهم في شتى بقاع الأرض ؛ تسلط عليهم القريب والبعيد وتداعت عليهم الأمم وتآمر عليهم الأعداء ..
ففي العراق وفي أفغانستان وفي الصومال وفي القوقاز أيضا حرب معلنة وتآمر وتآزر من طواغيت الشرق والغرب لإطفاء جذوة الجهاد التي أذكاها إخواننا هناك ..
حرب تألب الأعداء والأحزاب فيها وتمالئوا على إخواننا وبذلوا كل ما يملكون من وسائل الحرب والكيد والإرصاد لنصرة أنظمة مهترئة جاءت على ظهر دبابات المحتل ، لا يريد الأحزاب لهذه الأمة أن تتحرر من تسلطهم على بلاد المسلمين ..
هذه المؤامرات والتحزبات على المسلمين هنا وهناك تذكّرنا بحال المؤمنين يوم تحزّب عليهم الأحزاب .. فصبر المؤمنون وثبتوا ..
وقال الله عنهم : وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا
وإخواننا المجاهدين في كل مكان اليوم يقولون مثل هذا، وللمكلومين منهم في غزة وغيرها قدوة فيمن قال الله تعالى فيهم : الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)اهـ
فليستعلوا على القرح وليتجاوزوا آثار المصاب وليبادروا بتجديد نشاطهم وشحذ هممهم وشحن إيمانهم من هذا الموسم المبارك ؛ وليستجيبوا لله بالاعتصام بحبله والتوحّد تحت كلمته ..
فقد أظلنا شهر الخير والبركات شهر القرآن والفرقان شهر الفتوح والانتصارات شهر الصبر والاحتساب والثبات ، شهر رمضان الذي كانت فيه من الوقائع والأحداث ما غير وجه التاريخ.
ففيه كانت غزوة بدر الكبرى التي كانت بداية عزة المؤمنين ويوم الفرقان المبين ، الذي فرّق فيه الله بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ..
وفي السنة الثامنة وفي شهر رمضان أيضا، كان الفتح العظيم الذي أعز الله به دينه ونصر جنده، وطهّر به بيته المحرم من رجس الأوثان والمشركين، ودخل الناس به في دين الله أفواجا.
وبعد الفتح كانت “غزوة تبوك” التي كانت بين شهر رجب إلى شهر رمضان ، وهي غزوة العسرة والصبر والاحتساب غزوة الصادقين وفاضحة المنافقين ..
ولو ذهبنا نتتبع الانتصارات التي حازها المسلمون في هذا الشهر الكريم على مدار التاريخ لطال بنا المقام.
وإننا نستذكر تلك الأيام العظام كلما زارنا هذا الشهر الكريم لنرفع من معنويات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ؛ المأسورين منهم والمطاردين والمكلومين ولنذكر الأمة بأمجادها وانتصاراتها ؛ لتجد وتتهيأ وتعمل على استرجاعها ولا تيأس من ذلك ..
هذه الذكرى لأخواننا المجاهدين ولأحبابنا المكلومين والمأسورين..
وفي رمضان أيضا ذكرى أخرى لأصناف أخرى ..
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) أخرجه البخاري.
وهذه الذكرى لكل عالم سوء يقلب الحق باطلا ، ويجعل الكفر إسلاما ، ويصير الشرك توحيدا بتلبيسه وتزويره وتلاعبه بنصوص الشرع .. فيقال له : إن لم تدع هذا فليس لله حاجة في أن تدع طعامك وشرابك..
وفيها ذكرى لكل من يزور الحقائق فيسمي الموحدين والمجاهدين خوارج وتكفيريين ويصف الطواغيت بأنهم ولاة أمور ويصور أعداء الملة بالإخوة المؤمنين ، ويؤمّن من حاد الله ورسوله ويخذل ويقتل من نصر الدين.. كل ذلك من قول الزور الذي لا ينفع المرء إن لم يتركه ويتطهر منه ؛ أن يدع طعامه وشرابه ..
وفي رمضان أيضا ذكرى يراجع فيها كل أحد نفسه ويحاسبها على هجر القرآن ..
فرمضان شهر القرآن شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان
والله تعالى ذمّ الذين يهجرون كتابه، فقال: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (الفرقان:30).
ومن أعظم أنواع هجر القرآن هجر تطبيقه وتحكيمه وتحكيم شرائعه وحدوده في حياة المسلمين وفي محاكمهم وسياساتهم وعلاقاتهم واستبدال القوانين الوضعية الوضيعة بحدوده المطهرة ..
وفي رمضان ذكرى لمن أراد تجديد التوبة الصادقة بالعزم على ترك الآثام والسيئات والتوبة من خذلان الدين ومناصرة المجرمين والإقلاع عن ذلك وعدم العودة إليه , فهو شهر التوبة فمن لم يتب فيه فمتى يتوب ؟
قال الله تعالى :وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ النور : 31].
والتوبة بداية جديدة لإنطلاقة وديمومة ..
فقد كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم ديمة ؛ كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها حين سئلت : هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص يوماً من الأيام ؟ فقالت: ( لا كان عمله ديمة ) رواه البخاري ومسلم
والديمة : هو المطر الدائم في سكون .. فشبهت دوام عمله واستمراريته وعدم انقطاعه مع الاقتصاد والاعتدال فيه ؛ بدومة المطر ..
ولذلك كان يقول بعض أهل العلم : كن ربانيا ولا تكن رمضانيا، فلا ينبغي أن تتوجه إلى الله في رمضان وتنساه طوال العام ، وتسيل دموعك في رمضان وتقحط في غير رمضان..
قيل لبشر الحافي : إن قوما يتعبدون ويجتهدون في رمضان خاصة !
فقال : ( بئس القوم لا يعرفون الله حقا إلا في شهر رمضان ، إن الصالح الذي يعبد الله ويجتهد السنة كلها )
قال الله تعالى في وصف من وصى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه معهم : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عنهم
فهؤلاء همهم دين الله ديمة ؛ في الليل والنهار في الصباح والمساء في رمضان وفي غير رمضان ..
ومن كان ينتسب إليهم ويتشبه بهم فليكم مثلهم ..
ولا ينبغي له أن يهون أمام العقبات والابتلاءات ، ولا أن يستوعر الطريق أو يستطولها ..
ولا أن يغتر بكثرة المنكسرين والمتراجعين ..
ولا يستوحش بقلة الثابتين والشامخين ..
فهذي هي معالم ومزايا هذه الطريق ..
حفت بالمكاره ولم تزرع بالورود ..
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
وشهر رمضان بما فيه من تجديد التوبة وصدق التوجه واحتساب الصيام والقيام ، لا شك هو موسم لإجابة الدعاء ؛ فقد قال تعالى في آخر آيات الصيام: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(البقرة:186)
فإذا دعوت الله تعالى لنفسك وأهلك فلا تبخل على إخوانك الدعاة والمجاهدين في كل مكان بالدعاء في هذا الموسم العظيم؛ واجتهد أن تجعل في دعائك دوما الدعاء بنصر الإسلام وتمكين المسلمين ودحر الشرك وإذلال المشركين وإنجاء المستضعفين والتفريج عن المأسورين؛ فذلك من أقل حقوق إخوانك عليك ؛ فالمسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يسلمه ، ولا ينبغي لك أن تستهين بسلاح الدعاء فهو سلاح عظيم ، فانصر دينك وإخوانك به إن عجزت عن نصرتهم بالقوة والسلاح.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أولياؤك ويذل فيه أعداؤك ويحكم فيه كتابك .. اللهم انصر إخواننا المجاهدين في فلسطين والعراق والصومال وأفغانستان وفي القوقاز وفي كل مكان ..
الله انج المستضعفين من عبادك وفك قيد المأسورين وفرج هم المهمومين وارفع راية التوحيد والحق والدين ..
وكتب / أبو محمد المقدسي