بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
مقدمة:
تحوّلت الاحتجاجات السلمية في ليبيا منتصف شباط (فبراير) الماضي إلى مواجهات دموية بين النظام والثوار، على عدة جبهات ما بين الشرق والغرب. ورغم صدور القرارين الدوليين رقم 1970[1] و1973[2]، حيث أقرّ الأول عقوبات دبلوماسية ومالية على النظام، وشرّع الثاني حظر الطيران فوق ليبيا وحماية المدنيين بكل الوسائل اللازمة، إلا أن ميزان القوى ظلّ مائلاً نسبياً إلى جانب نظام القذافي، رغم الضربات الجوية الفرنسية والأمريكية والبريطانية في البداية، ثم الضربات الأطلسية، والتي أزاحت سلاح الطيران الليبي عن المعركة، وحدّت من سلاح المدرعات، وأعاقت الإمدادات اللوجيستية. وهذا المَيَلان في كفة المعارك على حدود الشرق الخاضع للثوار، قابله اشتعال بؤر ثائرة في قلب المنطقة الغربية، في مصراته شرقي طرابلس، وفي الزنتان وما حولها في منطقة الجبل الغربي جنوبي العاصمة، بعدما تمكن القذافي من السيطرة على الزاوية، فالزوارة باتجاه الحدود التونسية غرباً، ما جعل الموقف العام أقرب إلى التوازن القلق، مع تردّد القوى الغربية في مدّ الثوار بالأسلحة الملائمة للدفاع عن النفس وإنهاء النظام، بل جرى التذرّع ابتداءً بنص القرار 1970 لمنع توريد السلاح إليهم في مساواة نظرية بينهم وبين النظام، رغم أن القذافي واصل استيراد المقاتلين والأسلحة الحديثة عن طريق الدول المجاورة المتعاونة معه لا سيما الجزائر، في حين وصلت بعض الإمدادات العسكرية المحدودة إلى الثوار. كما تمسّكَ حلف شمالي الأطلسي بالتطبيق الحرفي للقرار 1973، والذي لا يسمح بأكثر من حماية المدنيين، مع محاولة إنهاء الصراع بتسوية سياسية معينة، وأعلن القادة العسكريون الأمريكيون أكثر من مرة عن عدم إمكانية الحسم العسكري في الظروف المشار إليها، والتي هي في جزء أساسي منها، نتيجة التدخل الغربي نفسه والقيود التي فرضها على ساحة المعارك بطرفيها المتصارعيْن. ولا يعني هذا، أن القوى الكبرى تريد بقاء القذافي بعد الثورة الشعبية حاكماً قسرياً لليبيا، كما قد لا يعني بالقَدْر نفسه تأييدها للمجلس الانتقالي كي يطيح عسكرياً بالقذافي ويفرض سلطانه بالقوة على كل ليبيا، وذلك بذريعة حماية المدنيين المؤيدين للقذافي في مدن واقعة في الوسط والغرب والجنوب. وإذا كان الحلفاء قد وضعوا خطاً أحمر مباشراً أمام قوات القذافي المندفعة نحو الشرق، كما منعوا عن الثوار الأسلحة الهجومية المناسبة لإلحاق الهزيمة بالقذافي، واقتصرت الضربات الجوية الأطلسية على الأهداف العسكرية بما يضعف القدرة الهجومية للنظام، فإن انهياره قد يحدث فجأة، بانشقاق كبير داخل نواته القيادية، أو خروج منطقة حيوية عن سيطرته، أو موت القذافي أو هروبه.
لكن، حتى مع اختفاء القذافي وأبنائه عن المشهد السياسي العام، بتسوية أو بدونها، فإن مرحلة ما بعد القذافي والتي بدأ النقاش حولها مبكراً، تثير مخاوف على مختلف المستويات في الداخل والخارج، منها ما يتعلق بهوية النظام البديل ومكوّناته السياسية وتوجهاته الاستراتيجية، ومنها مرتبط بتوزّع مراكز القوى التي تتنافس داخل المجلس الوطني الانتقالي، وحقيقة النزاع الخفي بين المجلس الذي يدّعي لنفسه تمثيل كل الشعب الليبي حصراً، وفئات أخرى مستقلة عنه ومعارِضة للنظام في آن، كما مصير القوى القبلية التي ساندت القذافي ولم تنضم إلى الثورة. ثم إن الشكوك تراود الخبراء في إمكانية حكم ليبيا بعد القذافي كما كان عليه الحال في عهده الذي استمر لأكثر من أربعة عقود، أي على طريقة المركز المتحكّم والأطراف المهمّشة، في الشرق خاصة، بعد انقلاب المعادلة، وتولي الشرق إطلاق شرارة تحرير بقية ليبيا من حكم الطغيان، مع احتمالات قيام دولة ضعيفة بعد تدمير معظم إمكانياتها في الحرب الشرسة، وهذه الدولة الناشئة والقائمة على بحر من الدماء، مع تورط فئات موالية للقذافي في عمليات القتل والاغتصاب بتحريض منه، هو ما يجعل إعادة اللحمة في بلد تسوده الروابط القبلية، مسألة صعبة حيث من الممكن أن تمتد الآثار السلبية لمدى غير معلوم، مع عدم إغفال مسألة حساسة، وهي أن القوى الغربية الداعمة للثوار، قد أخذت عهوداً من قادة المجلس الانتقالي، ليس فقط بالتبرؤ مسبقاً من التشكيلات الجهادية، بل بالتزام معايير مكافحة الإرهاب بعد الخلاص من القذافي، وهذه ستكون من أبرز المعضلات التي ستواجه الحكام الجدد في اليوم التالي لسقوط النظام، ما لم يلتزم هؤلاء بمنهج مستقل عن التأثير الغربي المتزايد بسبب ظروف الحرب. أما العامل الأبرز الذي قد يحكم المرحلة المقبلة، فهو الواقع الجغرافي لليبيا الذي أتاح في الماضي – وطيلة قرون طويلة – قيام ثنائية إقليميْ برقة وطرابلس، مع بروز إقليم فزان في الجنوب أحياناً. وعلى هذا الأساس، نشأت ليبيا الحديثة بعد الاستقلال كدولة اتحادية فدرالية قبل التوحّد في دولة مركزية. والعامل الجغرافي إلى جانب العوامل الأخرى المشار إليها، قد يجعل ليبيا ما بعد القذافي، أمام احتمال جدّي للانقسام السياسي ليس بالضرورة وفق الشكل السابق، أو لقيام دولة هشة تتعدّد فيها مراكز القوى السياسية والجغرافية، كمرحلة انتقالية على الأقل. بل إن ما يمكن فهمه من مبادرات السلام المتعددة، والعمليات الأطلسية التي ترسّخ معادلة توازنية بين الطرفين، بدلاً من حسم الصراع بسرعة، أنها تلتقي على دعم تسوية سياسية رضائية، بين النظام القائم في طرابلس أو بنيته الأساسية من روافد قبلية، وبين ما يمثله المجلس الوطني الانتقالي في بنغازي، بعد إقرار موازين القوى بين الطرفين وتثبيتها على خط وقف إطلاق النار، لتكون ليبيا بعد الحرب أشبه بفدرالية أو كونفدرالية[3]، بين الشرق والغرب وتوابعهما، مع إيجاد ممرات آمنة إلى المدن المحاصرة في الغرب، بما يشبه سيناريو الحرب في البوسنة والهرسك، قبل إقرار اتفاق دايتون عام 1995، والذي أقام الفدرالية الحالية في البوسنة، بحكومة مركزية ضعيفة نسبياً.
فهل تؤدي التدخلات الأجنبية المتضاربة المصالح إلى إبقاء بنية النظام في الغرب الليبي بشكلٍ ما، ضمن تسويةٍ سياسيةٍ ما؟ وهل تنقسم ليبيا مجدداً إلى إقليمين متنافسين أو أكثر بالنظر إلى جغرافيتها السياسية المشتتة؟ وما هي الآثار المفترضة إذا أصبحت ليبيا ساحة مفتوحة للفوضى مع انهيار بنية السلطة تماماً؟
من أجل الإجابة عن هذه التساؤلات التي قد تكون مؤشراً على بعض الاحتمالات الأكثر بروزاً للصراع الدائر، سيقوم هذا البحث بقراءة معمقة للعوامل الأساسية التي تصنع الحدث الليبي ومساراته بطريقة أو بأخرى، كما التي تُملي مواقف بعض الدول المؤثرة في ليبيا راهناً، والتي ستكون بمجموعها، المتفاعل بعضها مع بعض، من أهم أسباب تشكّل المشهد النهائي في هذا الاتجاه أو ذاك، والمقصود بها المعطيات الجغرافية المميزة لليبيا، والتي كان لها الدور الحاسم عبر التاريخ قديمِه وحديثِه، وكذلك حزمة المصالح الاستراتيجية التي تتحكّم بمواقف القوى الإقليمية والدولية إزاء الأزمة الليبية، مع إفراد مساحة وافرة لموقفين نافرين، الأول لفرنسا التي تولّت العبء الرئيسي في تبني قضية ثوار بنغازي، والثاني لتركيا، التي خالفت التوقعات برفضها الانحياز إلى الثوار، كما رفضها تدخل القوى الكبرى سواء مع حلف الأطلسي أو من دونه، من أجل إسقاط القذافي. وعليه، ينقسم البحث إلى مقدمة، وفصل أول يتناول الجغرافيا السياسية لليبيا وخصائصها السكانية والاقتصادية، وفصل ثانٍ عن الموقف الفرنسي ودوافعه الأيديولوجية والاستراتيجية، وفصل ثالث عن أبعاد الموقف التركي إزاء الأزمة الليبية من وجهة نظر جيوسياسية، وفصل رابع عن احتمالات الصراع على ضوء المعطيات الثابتة والمتغيرة.
الفصل الأول: شخصية ليبيا
يعرّف العالم الجغرافي المصري جمال حمدان الجغرافيا السياسية أو الجيوبوليتيكا، وعلاقتها بكيان أي دولة، بأنها “العلم الذي يضع الدولة في إطارها الطبيعي الباقي، ويردّها إلى أصولها الجغرافية الدائمة الوثيقة، بما يحقّق أساسها الطبيعي، ويرصد الثوابت والمتغيرات على أطول مدى ممكن، في توجهها وعلاقاتها، ثم يحدّد نُقَط الضعف الكامنة أو الظاهرة في وجودها السياسي وموقعها في عالم السياسة، ووَقْعها عليه محلياً وإقليمياً ودولياً”[4]. فهي إذاً، العلم الذي يدرس المعطيات الثابتة في كيان أي دولة، وتأثيراتها على المعطيات المتغيرة، مما تعتريها من عوامل مختلفة، داخلية وخارجية، وهو ما يتيح للباحث استخراج الدروس من تاريخها القديم والحديث، واستشراف مستقبل هذه الدولة، بالنظر إلى ما يكشفه هذا العلم من نُقَط الضعف والقوة في وجودها السياسي المستند أساساً إلى قاعدة جغرافية ثابتة لها مواصفاتها الخاصة.
وبالنسبة إلى ليبيا، فإن المفارقة الأساسية فيها تكمن في التناقض القائم بين عنصرين جغرافيين يشكلان نقطة قوة من جهة ونقطة ضعف من جهة أخرى، فامتدادها الصحراوي من الحدود الشرقية إلى الحدود الغربية، يجعل منها “وحدة سياسية أصيلة، ودولة طبيعية بمعنى ما”، لكن بالمقابل، تتميز بأنها ذات “مساحة شاسعة محدودة الطاقة البشرية، والنسيج الطبيعي فيها ممزق إلى أكثر من رقعة متباعدة، وهناك قدر معين من التفكك الطبيعي النسبي، وقدر من التشتت والتبعثر الذي يضعف الوحدة السياسية ويفقدها بؤرة جامعة، ولا يمكن إلا أن تكون بالتعبير الجيوبوليتيكي الدقيق دولة واسعة مع وزن سياسي ضئيل، وكثافة سياسية مخلخلة، وقوة بشرية محدودة، وموارد مادية واقتصادية فقيرة (من دون النفط)، ونواة تاريخية ضعيفة التبلور، وتخوم طبيعية غير حاسمة الوضوح دائماً، وهنا نفهم لماذا كانت دائماً فريسة سهلة للقوى الخارجية الأكبر حجماً”، حسب تعبير حمدان[5].
وبتفصيل أكثر، فإن “ليبيا دولة بحر متوسط وصحراء بالدرجة الأولى، بمعنى أن الرقعة السياسية تتألف من إقليمين من الأقاليم الطبيعية، فهناك الجبهة الساحلية المتوسطية أو السواحل، وهي أساساً كتلتان مستطيلتان ومنفصلتان من المرتفعات الهضبية الجبلية أو التلّية تصل في أعلاها إلى نحو 800 متر، وهناك الظهير الصحراوي الداخلي أو الدواخل، وهي رقعة شاسعة من الصحراء الصخرية والحَصَوية تمتد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وتغطي الصحراء من 90 إلى 95% من المساحة الكلية، 2% منها تخلو حقيقةً من الصحراء، أما النطاق المتوسطي فشريط ساحلي قليل العمق، يتراوح في اقصى اتساعه بين 50 و100 كلم في الساحل، من نوع متدهور فقير، منقطع غير متصل، غير أن هذا النطاق هو نواة الدولة، وفيه يتركز أكثر من 90% من السكان، ومنه يأتي معظم الإنتاج والثروة، ومن الناحية الأخرى، يفصل بين شرقي ليبيا وغربيها، نطاق رأسي عريض ومتصل من الصحراء، يبدأ من منتصف جبال تبستي في الجنوب ولا ينتهي إلا في خليج سرت، ويشطر المرتفعات الساحلية فاصلاً كتلة برقة عن كتلة طرابلس تماماً، كما يقسم الظهير الصحراوي الداخلي إلى حوضين منفصلين في الجنوب، هما حوض الكفرة في الشرق وحوض فزان في الغرب، وبذلك يقطع القاطعان الجبلي والصحراوي ليبيا إلى أربعة أرباع تقريباً”[6].
ومع انقسام ليبيا طبيعياً إلى أربع أرباع متميزة جغرافياً، فإن إقليم طرابلس هو “النواة الكبرى على الإطلاق وهي وحدها ثلثا ليبيا، بينما برقة أقل قليلاً من ثلث ليبيا، أما حوض فزان فعلى اتساعه الهائل فمجرد نواة صغرى، تمثل 5% من مجموع السكان، وحوض الكفرة هو بحق الربع الخالي الليبي، صحراء شبه مطلقة من اللامعمور المطلق تقريباً. وهذه الكتل السكانية منفصلة بعضها عن بعض بجبهات صحراوية عميقة وتقوم كجزر بشرية حقيقية”[7]. ويبقى المحور الليبي الحقيقي متركّزاً في نواتي طرابلس وبرقة، من الناحية السكانية خاصة، وباعتبار أن فزان تذييل بالغ الضآلة سكانياً وإنتاجياً[8]. وإن الكتلة السكانية أكثف ما تكون في الغرب، وأقل ما تكون في الجنوب، أما الشرق فيأتي في المرتبة الوسطى[9].
هذا التوزع لمراكز الثقل الجغرافي السياسي، بما يعنيه “التطرف الهامشي للنواة، قضى بغياب المركزية الجغرافية والمركزية السياسية على الفور، أو على الأقل بضعفها الشديد والمفرط، فالقلب السياسي الحيوي النابض للدولة يقع على ضلوعها، بينما القلب الجغرافي النظري أو الهندسي هو قلب ميت تقريباً، وهذا ما عرّض النواة الشمالية لكل الخطر، كما أن الفراغ العمراني في الجنوب هو أيضاً فراغ استراتيجي يغري بالأطماع الإقليمية، ويقلّل من القبضة المركزية على الأطراف البعيدة، وفزان بخاصة لديها تطلعات مكتومة أو مكبوتة للانفصال أو للضم من الخارج[10]، حيث كانت في فترة الاستعمار منطقة تنازع بين فرنسا وإيطاليا.
أما تاريخ ليبيا منذ الأزمنة القديمة، فارتبط مساره بالمميزات الجغرافية المشار إليها، بما أدى إلى ظهور الثنائية السياسية كانعكاس للثنائية الجغرافية بين إقليمي برقة وطرابلس، فكان النفوذ الفرعوني تقليدياً في برقة بمقابل النفوذ الفينيقي في طرابلس، وكانت هناك غارات وتدخلات بين برقة والداخل المصري. وإذا كانت ليبيا قد تقاسمها بعد ذلك النفوذ الإغريقي (اليوناني) في برقة، والقرطاجي (الفينيقي) في طرابلس، فقد أدى التوسع القرطاجي المتمدد حتى خليج سرت إلى الصدام بينهما في منطقة التخوم. ثم ضمّ الاسكندر برقة إلى مصر مُلحقاً بها بالاسكندرية، ومع سقوط قرطاجة بيد أعدائها الرومان وانتقال طرابلس إلى النفوذ الروماني، عادت ليبيا فانقسمت مرة أخرى، بين اليونان والرومان، فكانت برقة تابعة في ظل الإمبراطورية الإغريقية لقاعدة مصر، وكانت طرابلس تابعة في ظل الإمبراطورية الرومانية لقاعدة تونس القرطاجنية. ثم توحدت ليبيا تحت سلطة واحدة، لما سقطت الإمبراطورية اليونانية بكاملها بيد روما، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تتوحدان فيها سياسياً، كذلك إلحاق فزان بطرابلس وبرقة، عندما توغل الرومان في قلب الصحراء لردّ الغارات القادمة من الجنوب. وكان الاستعمار الروماني عسكرياً واستراتيجياً بالدرجة الأولى، وليس استعماراً ساحلياً كمن سبقه. واستمرت وحدة ليبيا نحو خمسة قرون، من القرن الأول ق.م إلى القرن الرابع الميلادي. ثم انقسمت مرة أخرى حين انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى شرقية بيزنطية ورومانية غربية، فكانت برقة من نصيب بيزنطة، وكانت طرابلس من نصيب روما[11].
شكل رقم 1: ليبيا في عهد الإمبراطورية الرومانية
(المصدر: جمال حمدان، ليبيا، دراسة في الجغرافيا السياسية)
شكل رقم 2: ليبيا المنقسمة بين الإمبراطورية البيزنطية الشرقية والإمبراطورية الرومانية الغربية، (المصدر: جمال حمدان، ليبيا، دراسة في الجغرافيا السياسية)
وتكرر النمط نفسه، حين غزا الفاندال شمالي إفريقيا، والفرس الساسانيون مصر من الناحية الأخرى، بعدهما عادت بيزنطة فاحتلت ليبيا كلها، ثم خلفتها قبائل البربر وعلى رأسها اللواتة، حين سيطرت على شمالي إفريقيا في القرن السابع الميلادي حتى جاء ]المسلمون[ العرب[12].
ولا يوجد فاصل زمني بين فتح مصر وليبيا، حيث دخلت قبيلتا بني سليم وبني هلال، من صعيد مصر بأعداد ضخمة لتستقر الأولى نهائياً في برقة، والثانية في طرابلس، واختلطت العناصر العربية بالبربرية اختلاطاً بعيد المدى لا سيما في برقة، فكان الأساس العرقي لليبيا الحالية. وحقق الفتح العربي وحدة ليبيا الإقليمية، لكن لم تلبث أن عادت ثنائية برقة لمصر، وطرابلس لإفريقية (تونس)، ففي العهد العباسي كان الأغالبة يحكمون ليبيا. وحُكمت طرابلس من فاس وتونس أيام الموحّدين والحفصيين، وحُكمت مصر برقة في زمن الفاطميين ثم السلاجقة[13].
وفي القرن السادس عشر الميلادي، خلال التنازع بين إسبانيا القوة الأوروبية المسيحية البحرية العظمى وبين تركيا القوة الشرقية الإسلامية العظمى، كانت ليبيا محور الشدّ والجذب بين المنطقتين، حيث يتوسط موقع ليبيا تماماً بين القوتين البحرتين العظميين في أقصى الشرق وأقصى الغرب من حوض البحر المتوسط، وكانت مبارزة بحرية بين أقصى طرفي البحر[14].
وفي أيام العثمانيين كانت طرابلس الغرب ولاية وملحق فزان كسنجق تابعاً لها، وبرقة سنجقاً منفصلاً، دون أن تكون ولاية. وكانت طرابلس محور اهتمام العثمانيين، وكانت دائماً الأغنى سكاناً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ففي حين كان سكان ليبيا 750 ألف نسمة، كان سكان طرابلس 60 ألفاً ولم تكن بنغازي لتتجاوز 15 ألفاً[15].
واعتمدت إيالة طرابلس على مصدرين خارجيين أساسيين هما: تجارة القوافل ومكاسب القرصنة البحرية، فما بين الظهير الجبلي الطارد والساحل الغني بالمراسي المحمية المنيعة، تحول ساحل البربر إلى بيئة صالحة لنشاط القراصنة. ووصل الأوج في القرون 17-19، وكان لطرابلس الدور الكامل، ودخلت لعبة صراع القوة في البحر المتوسط، ما دفع عدداً من القوى الأوروبية لتجريد حملات على طرابلس خلال القرنين 18 و19. وشهدت طرابلس نفوذاً أوروبياً متزايداً مع انجذابها إلى البحر باطراد، ونحو النفوذ الأوروبي سياسياً وحضارياً، بينما كانت برقة تخضع لقوة مركزية نحو الداخل، وتتجه في عزلة متزايدة نحو القارة جنوباً، ونحو الصحراء بعيداً عن مؤثرات أوروبا والغرب، وهنا نشأت الحركة السنوسية، وهي واحدة من الحركات الدينية السياسية الصحراوية. وقد اتخذت من أعماق الصحراء معقلاً تحتمي فيه وتقفز منه بحرب العصابات على الوجود الغربي الاستعماري[16]. وقد اعتمد الهيكل المادي للسنوسية على شبكة من الزوايا أشبه بالرباطات التي تجمع بين الإنتاج والدفاع، موزّعةً في واحات الصحراء المحمية والاستراتيجية حربياً وتجارياً. وقامت الزاوية الأولى في الجبل الأخضر، ثم انتقل إلى الجغبوب ثم إلى الكفرة التي دخلت حينئذ لأول مرة إلى الإسلام (ومن هنا الاسم)، وهذا الانتقال الجغرافي يشكل هجرة منتظمة إلى الجنوب[17].
وعلى ما سبق، يمكن القول إن كلاً من برقة وطرابلس “اتخذ خطاً تطورياً سياسياً مختلفاً إلى حدّ معين، حيث ستزداد الزاوية بينهما انفراجاً في المستقبل، وستنعكس إلى حدّ ما على التركيب السياسي لليبيا المستقلة، فأصبحت طرابلس أكثر انفتاحاً على الغرب واحتكاكاً به، وأكثر تعرضاً لأخطاره الاستعمارية وجالياته المتزايدة، كما أصبحت مدنه أكثر تأثراً بالطابع الأوروبي، وصارت برقة أكثر عزلة وانطواء، والتراث العربي أغلب على طابعها وعلى مدنها، والوجود الأجنبي والخطر الاستعماري أقل كثافة وتهديداً نسبياً[18].
وموقع ليبيا الجغرافي، كان نموذجاً مثالياً للاستعمار الاستراتيجي، فهي “لا تتوسط ساحل البحر المتوسط الجنوبي في مواجهة إيطاليا مباشرة وحسب، ولكنها كانت تقع بين قوسي الاستعمار البريطاني في شمال شرقي إفريقيا والفرنسي في شمالها الغربي، وهي بذلك خشبة قفز من القاعدة الأم، وموطئ قدم على اليابس الإفريقي ورأس حربة داخل محيط الاستعمار القديم، وبهذا لم يكن الهدف الإيطالي من استعمار ليبيا عام 1911 أن تقوم قاعدة أمامية للزحف شرقاً أو جنوباً في اتجاه واحد، ولكن دائرياً يميناً ويساراً شأنها شأن الجزائر في المغرب الفرنسي[19]. وقيّض لهذه التجربة أن تثبت على الأقل قيمة ليبيا البالغة كموقع استراتيجي دقيق وكموقعة حربية هامة”[20].
شكل رقم 3: موقع ليبيا الاستراتيجي بين المشرق والمغرب.
وأثناء الحرب العالمية الثانية، تحولت المواجهة بين دول الحلفاء ودول المحور، إلى عملية مدّ وجزر عبر ليبيا، فثلاث مرات على الأقل خلال سنوات المعركة الثلاثة، تقدمت قوات المحور (ألمانيا وإيطاليا خاصة) من ليبيا إلى ساحل مصر بينما توغل الحلفاء داخل ليبيا، واقتصرت عملية شدّ الحبل غالباً على قطاع برقة ما بين مريوط في أقصى الشرق (مرسي مطروح عادة) وساحل سرت في أقصى الغرب (أجدابيا عادة)، وفي الموجة الثالثة وحدها انفرجت العملية على سعتها لتشمل ليبيا بكامل عرضها من الحدود إلى الحدود[21]. وكان محور المعركة خطياً أساساً، إذ اقتصر ميدان المعركة عملياً على الشقة الساحلية الضيقة المحصورة ما بين البحر وأقدام المرتفعات الشمالية سواء في طرابلس أو في برقة، وفي هذا الإطار المختنق كان من الممكن للأسلحة الثلاثة البرية والبحرية والجوية أن تجتمع في استراتيجية مكثفة، فكان هذا الإطار الجغرافي أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت المواجهة تأخذ نمط شدّ الحبل والمدّ والجزر. أما الداخل الصحراوي فقد كان حقل ألغام، وكان مصير الداخل يتقرّر في الساحل[22].
ورغم أن ليبيا كانت مسرحاً رئيسياً للقتال لكن المفاتيح الاستراتيجية بقيت خارج الحدود، “ودارت على أرضها المعارك المتعددة بلا انقطاع، والمعارك الفاصلة التي حسمت الصراع وقعت خارجها أو على أبوابها، وكان الخط الساحلي الممتد لنحو 1500 ميل مجرد قناة انزلاق يميناً ويساراً، وفي هذا بالدقة يتحدّد دور ليبيا الجيواستراتيجي أنها أساساً ممر ممدود وطريق بلا حدود أكثر منها قاعدة أساسية أوموقعاً حاكماً”[23].
ومن الحقائق الجيوبوليتيكية المثيرة أن ليبيا كما وقعت في البداية تحت الاستعمار نتيجة للعبة القوى بين إيطاليا وفرنسا وبريطانيا، حصلت على الاستقلال في النهاية بفضل صراع القوى، والفارق بين الحالتين هو التواطؤ والاتفاق على التقاسم في الأولى، والتضارب والعجز عن الاتفاق إلى حدّ الحرمان المتبادل في الثانية[24]. فقد كان الاتجاه السائد إما فرض وصاية الأمم المتحدة على ليبيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أو فرض وصاية دول محدّدة من القوى الكبرى، وبين هاتين ظهرت كل الصيغ الممكنة، ابتداء من عودة إيطاليا إلى الوصاية الكاملة على كل ليبيا، أو الوصاية الجزئية على إقليم فيها، اقتسام الوصاية بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، أو استبعاد إيطاليا تماماً، واقتسام الوصاية بين بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، أو حتى بين بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي، فضلاً عن اقتراح بوصاية جامعة الدول العربية أو مصر بالذات، إن كان لا بد من الوصاية، وفي هذا الصراع المعقد المتعدد الأطراف كانت إيطاليا تريد العودة إلى طرابلس، وفرنسا لاستعادة فزان، وبريطانيا تريد برقة التي تحتلها، ثم اقترح السوفيات أن تكون لهم الوصاية على طرابلس، فسارع الغرب لاقتراح الاستقلال التام لليبيا[25]، التي وجدت نفسها أمام استعمار جديد، استعمار استراتيجي بترولي أنكلوساكسوني أطلسي، أو استعمار القواعد العسكرية والشركات الاحتكارية[26].
وهنا برزت الثنائية الجغرافية مجدداً، وما تطويه من خصائص اجتماعية وسياسية، فأعلنت برقة بالاتفاق مع بريطانيا في عام 1949 قيام برقة المستقلة ما عدا شؤون الخارجية والدفاع التي بقيت بيد بريطانيا، وجرى تأجير طبرق قاعدة بحرية جوية لبريطانيا، فيما قامت بريطانيا بالعمل على تأجير قاعدة أخرى للولايات المتحدة في هويلس قرب طرابلس[27].
وحين قامت ليبيا الواحدة عام 1951، إثر قبول طرابلس بالحكم السنوسي، ظلّ الخلاف بين نظرتين مختلفتين، فطرابلس طالبت بقيام دولة موحدة، فيما كانت برقة وفزان تطالبان بالدولة الاتحادية، فقامت أولاً دولة اتحادية تتألف من ثلاث ولايات هي برقة وطرابلس وفزان[28]. وكانت طرابلس وهي ضعف برقة سكاناً وإنتاجاً تجد نفسها النواة الكبرى في ليبيا مثلما هي الأكثر تطوراً وتحضراً، ولهذا كانت ترى في تمييز برقة تمييزاً للشطر الأصغر على الشطر الأكبر، وتغليباً للرعوية البدوية الأقل تعلماً على الأغلبية الزراعية المستقرة الأكثر تعلماً[29]. وفي فزان كان أول كشف بترولي في ليبيا، ولكن صُرف عنها لشدة بعدها عن الساحل، وهي تملك ثروة بترولية هامة، وثروة ضخمة من الحديد لذلك هي احتياطي ليبيا ورصيد المستقبل[30]. لذلك، كان النظام الفدرالي في ليبيا المستقلة، يعني نسيجاً سياسياً مهلهلاً ومفككاً في دولة مليونية قليلة السكان بقدر ما هي شاسعة السكان، وتعاني بذلك أصلاً من التفكك الجغرافي، وضاعف النظام الاتحادي من التفكك الجيوبوليتيكي، وفتح الباب لخلق الحساسيات الإقليمية والمقارنات والموازنات التنافسية بين الولايات المكونة لها حتى تراكمت الحساسيات مع الولاءات القبلية، واتخذ الوضع منحى خطيراً بعد ظهور البترول، وجاء انبثاق البترول أساساً في حوض سرت، حلقة الانقطاع العمراني بين نواتي المعمور الفعال في طرابلس وبرقة، ما أوجد نواة جديدة من العمران اللاحم بين النواتين، وبؤرة لامّة تجمعت حولها آمال الأقاليم المختلفة بحيث أصبح البترول أداة توحيد داخلي. لهذا، وبعد عامين من تدفق البترول، أُعلنت دولة أحادية موحدة في عام 1963، وأعيد تقسيمها إدارياً إلى عشر محافظات تفادياً للمنطق الإقليمي[31].
في البداية انبثق البترول على جانبي خط الحدود الولائية بين برقة وطرابلس، فبدأ الاهتمام بالتوزيع الإقليمي للبترول واشتد أصبح ظاهرة مقلقة ثم أصبحت معظم أهم حقول النفط في برقة، وحتى كاد أن يكون حوضاً برقاوياً[32]. وانتقل مركز الثقل وخارج كل توازن إلى برقة بسبب البترول الذي أذاب روح الإقليمية الضيقة ومنطق العزلة، وقرّب بين حجم ووزن كل من شقي الأمة، لكن ظلت آثارها ومخلفاتها في تكوين العاصمة، إذ هي عاصمتان فعلياً[33]. ولربما كان أحد أسباب نجاح القذافي في الإمساك بزمام الأمور لأكثر من أربعة عقود، انتماؤه القبلي والجغرافي[34]، إلى تلك المنطقة الوسطى بين الشرق والغرب، حيث تلاعب طويلاً بالحساسيات القبلية والجهوية، كي يضمن بقاء سلطته.
لقد اتخذ النظام السنوسي من البترول في الداخل أداة للمضاربات الإقليمية (الجهوية)، وكان التوجه العام عزل ليبيا عن الذاكرة العربية عامة، ومصر خاصة، والعزلة خلف الأسوار الانفصالية العالية بدعوى الوطنية، وأخيراً اعتماد دور الدولة العازلة، الدولة الحاجزة لليبيا بين مشرق العرب ومغربه[35]. وكانت ليبيا فراغ قوة تقريباً، أشبه بالمنخفض الحاد بين قوى ضخمة في المشرق والمغرب، ولكنها بالثورة (عام 1969) بعد البترول – كما يقول حمدان – أصبحت تملك ما يسمى بجيوبوليتيكا فائض القوة[36].
وفي كلمة جامعة، يعتبر حمدان أن الغلاف الصحراوي الأوسع الذي يطوق ليبيا ويلفها بمجموعها ويفصلها عن جاراتها هو عامل أساسي في حفظ وحدتها وكيانها الكلي، فهو وحده الذي يتغلب على جبهات الانفصال الصحراوية داخلها[37]. وليبيا رغم عوامل الانقسام فيها، هي من دول الضرورة، إذ لا بد من قيامها ككيان منفرد قائم بذاته، ليس حتماً بفضل محتواه الذاتي تماماً، لكن كمنطقة فضلة، تستمد انفرادها كوحدة سياسية لا من قوة كيانها الذاتي تماماً بقدر ما تستمد انفرادها من أنها مساحة أكبر جداً من أن تلحق بغيرها. وهي دولة طبيعية بلا شك، دولة جغرافية لا دولة سياسية، من صنع الجغرافيا لا من فرض السياسة، أما البترول فقد منح ليبيا قوة مضافة وفائض قوة، حوّلها من منطقة فضلة إلى منطقة منبثقة[38]. وبموقعها الاستراتيجي يمكن على الأقل تهديد شرايين مواصلات البحر المتوسط كما يمكن من الزحف يميناً إلى الشرق الأوسط ويساراً إلى شمالي إفريقيا[39].
استنتاج:
إن عوامل داخلية طاردة تجعل من ليبيا ككيان جغرافي سياسي، معرّض أكثر من أي دولة في شمالي إفريقيا، إلى التوزع على أكثر من مركز، ما جعل وحدتها الكاملة لا سيما نطاقها الساحلي المأهول، استثناء تاريخياً، رغم أنها دولة طبيعية من الناحية الجغرافية، لوجود الصحراء فيها كعنصر جامع. وبما أنها نقطة فراغ شاسع بين كتل سكانية كبيرة شرقاً (مصر) وغرباً (تونس والجزائر)، فقد ظهرت فيها الثنائية بين برقة وطرابلس، في لحظات التجاذب بين القوى المهيمنة في البحر المتوسط، وتلاشت هذه الثنائية فقط في فترات الامتداد لقوة واحدة، إقليمية أو عالمية. وإذا كان القذافي قد استفاد من التقسيمات الاستعمارية وفترة الحرب الباردة، مستخدماً كل أساليب القمع والمراوغة، للحفاظ بليبيا موحدة تحت طغيانه، بل تمكن من التكيف مع مرحلة القطبية الواحدة للولايات المتحدة، فسارع عقب غزو العراق عام 2003، إلى تقديم فروض الطاعة لسيد البيت الأبيض آنذاك (بوش الابن)، فإن انفجار ثورة 17 شباط (فبراير) الماضي، بدءاً من بنغازي في الشرق، واستخدام القذافي وأبنائه للعنف الأعمى ردعاً للثوار، مستثيراً المكوّنات القبلية والجهوية في معركة المصير، قد أعاد نوعاً من الثنائية القديمة ولو بالشكل. ورغم أن الثورة امتدت بسرعة موازية إلى مدن الغرب ولا سيما طرابلس، لكن ميزان القوى بين النظام والثوار من جهة أولى، واختلاف القوى الإقليمية والدولية حول مسار الأحداث والنتائج المبتغاة من كل طرف من هؤلاء، من جهة ثانية، ومبادرات الصلح الآتية من أطراف عدة، من جهة ثالثة، تدفع كلها إلى إحياء التجاذب الجغرافي الداخلي الذي هو نتاج مباشر لتناقضات المصالح الخارجية، وعلى الأقل استخدام هذه المميزات الجغرافية التاريخية لعقد تسوية سياسية، لا يكون فيها للشرق غلبة على الغرب، باعتبار أن الثوار يسيطرون على الشرق بغطاء من حلف الأطلسي، وأن آل القذافي يسيطرون على جوانب كثيرة من الغرب، رغم ضربات الحلف. وإذا كانت منطقة خليج سرت، المعروفة بالهلال النفطي، هي مركز ثقل الإنتاج النفطي في ليبيا، فإن الجمود العسكري هناك، بل توجيه الضربات الأطلسية أكثر من مرة إلى قوات الثوار المندفعين نحو سرت، مع ادعاء الخطأ أو سوء الفهم، قد يشير إلى نية إرساء توازن غير معلن، ليكون الحل السياسي على القواعد الجغرافية المشار إليها
شكل 4: السكان ومواقع إنتاج النفط
الفصل الثاني: الموقف الفرنسي
اندفع الرئيس الفرنسي في تأييد ثوار ليبيا صراحةً ضد القذافي، فيما بات يُعرف في دوائر البيت الأبيض على أنها حرب ساركوزي، وهو الذي ظلّ وفياً لبن علي في تونس إلى حين هروبه، وظل متحفظاً إزاء أزمة مبارك في مصر. فلم تكن فرنسا أول دولة في العالم تعترف بالمجلس الوطني الانتقالي ممثلاً شرعياً للشعب الليبي وحسب، بل تولى ساركوزي بنفسه استحصال الغطاء العربي من جامعة الدول العربية، وإقناع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وكذلك إدارة باراك أوباما، لإصدار قرار دولي تحت عنوان حماية المدنيين الليبيين، وبعد ذلك، بادرت فرنسا إلى جانب بريطانيا والولايات المتحدة، إلى قصف كتائب القذافي المندفعة بسرعة نحو بنغازي، كما أسهمت في المعركة جواً حول أجدابيا وباتجاه البريقة في مساندة الثوار، قبل أن يتولى حلف الأطلسي مهمة تطبيق القرار الدولي حرفياً، فيتوقف الغطاء الجوي المباشر للثوار في الشرق. فهل كانت دوافع ساركوزي سياسية انتخابية قبل عام من الانتخابات الرئاسية مع انخفاض شعبيته إلى 20% وهي الأدنى تاريخياً لرئيس فرنسي، أم هي أخلاقية مبدئية وهو الذي زعم قبيل انتخابه بأشهر أنه سيكون رئيساً لفرنسا حقوق الإنسان، ولن يكون شريكاً لأي ديكتاتور في العالم، فكانت أفعاله تناقض أقواله تماماً، أم كانت دوافعه أعمق من ذلك، وترتبط بالطموح التوسعي في منطقة المغرب العربي ذات الأهمية الجيوسياسية والاستراتيجية لأوروبا عامة ولفرنسا خاصة؟
إن ليبيا لم تكن مجالاً استعمارياً سابقاً لفرنسا، ولم تكن لفرنسا علاقات مميزة مع ليبيا قبل محاولة ساركوزي ذلك مع القذافي عام 2007 عقب انتخابه رئيساً، في حين أن دعم الثوار الليبيين يتيح فرصة لتوسيع النفوذ الفرنسي نحو منطقة غنية جداً بالنفط ذي النوعية الممتازة، كما أنّ الفرص الاقتصادية في ليبيا ستكون أكبر بكثير بعد زوال النظام، وبما يتجاوز الفرص المتاحة في مستعمراتها السابقة في بقية دول المغرب. ومع هذه الأسباب السالفة، فإن تحقيق الخرق الفرنسي نحو بنغازي، رغم المصالح الكبيرة التي قد تدفع فرنسا كدولة للرهان على الثوار، قد تمّ على يد فيلسوف يهودي فرنسي شهير، وهو صديق قديم لساركوزي منذ عام 1983، يدعى برنارد هنري ليفي. وليفي له تاريخ مشهود بدعم الشعوب المضطهدة والتي تقترب من حالة الإبادة، من أفغانستان[40] إلى دارفور[41]، مروراً بالبوسنة[42]، وهو معروف بتأييده الشديد لإسرائيل[43] وعدائه للحركات الإسلامية[44]، وقد أجرى بنفسه عام 2002 تحقيقاً موسعاً عن الجهة التي خطفت وقتلت الصحافي اليهودي الأمريكي دانيال بيرل في باكستان[45]. جاء ليفي فجأة إلى بنغازي في 1 آذار (مارس) بعد تنسيقه الأمر مع ساركوزي، مع مرور أسبوعين على اندلاع الثورة، طالباً لقاء قيادة المجلس الانتقالي، عارضاً عليها ترتيب لقاء مع القيادة الفرنسية. لكن رئيس المجلس مصطفى عبد الجليل، اشترط أولاً اعتراف فرنسا دبلوماسياً بالمجلس على أنه الممثل الشرعي لليبيا، وقد تمكن ليفي من الحصول على ذلك من ساركوزي مباشرة، ففُتحت الطريق بين باريس وبنغازي[46]. وفي حين أن وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون كانت استنكفت في البداية عن استقبال وفد المجلس الوطني الانتقالي، وحين تمّ اللقاء لم تعدهم بشيء، لكن كل ذلك تبدّل رأساً على عقب بعد أيام قليلة، حين بذلت كلينتون جهوداً حثيثة لإصدار القرار القاضي بحماية المدنيين الليبيين بكل الوسائل اللازمة، وذلك بعد اتصال ساركوزي بها.
ساركوزي الإسرائيلي:
إن ساركوزي لم يخفِ في أي يوم تعلقه بالمجتمع اليهودي ولا صداقته مع إسرائيل، التي يصفها بأنها معجزة القرن العشرين، بل إنه أقام تعاوناً استثنائياً مع الأوساط اليهودية في صراعه ضد معاداة السامية في فرنسا، مانعاً أي انتقاد لإسرائيل[47]. وتغيرت فرنسا كثيراً، منذ مجيء ساركوزي الديغولي المنشأ إلى السلطة عام 2007، فالزعيم التاريخي شارل ديغول خرج من حلف الأطلسي عام 1966، ثم أعلن في مؤتمر صحافي في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967، بعد أشهر من حرب حزيران (يونيو) بين العرب وإسرائيل، انفكاك الجمهورية الخامسة الفرنسية، عن علاقاتها الخاصة والضيقة جداً مع إسرائيل، وانخراط بلاده في اتجاه معاكس، نحو تحقيق الوفاق في الشرق الأوسط[48]، كما أن سلفه المباشر جاك شيراك هدّد الأمن الإسرائيلي الذي كان يضايق حركته أثناء زيارته للقدس عام 1996، بالعودة فوراً إلى باريس[49]، حتى إن المؤرخ بول إيريك بلانرو يتساءل في كتابه المحظور في فرنسا: “ساركوزي، إسرائيل واليهود”: “هل أصبحت فرنسا دولة صهيونية؟”[50]. ويحشد بلانرو جملة واسعة من المؤشرات التي تدلّ كلها على العلاقة المميزة التي تربط ساركوزي، وقبل سنوات طويلة من انتخابه رئيساً، ليس فقط بيهود فرنسا وهم يشكّلون ثالث أكبر تجمع يهودي في العالم (600 ألف شخص)، بل بدوائر جماعات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة، وبالطبقة الحاكمة في إسرائيل. وسواء أكانت دعوى تجنيد الموساد لساركوزي في شبابه، باعتباره من أصول يهودية مستندةً إلى أدلة ثابتة أم لا[51]، فإن ساركوزي نفسه أكد في أكثر من مناسبة أنه متطوع لنصرة إسرائيل وحماية اليهود، وبغض النظر عن نسبه اليهودي لجهة الأم. وهو بسبب مواقفه المؤيدة لليهود وإسرائيل، نال أكثر من جائزة تكريمية من يهود فرنسا والولايات المتحدة قبل وصوله إلى الرئاسة.
إن جده لأمه (آرون ملاح) كان يهودياً من سالونيك اليونانية، قبل أن يتحوّل إلى الكاثوليكية ويغيّر اسم عائلته إلى بنيدكت. وساركوزي الذي تربى في كنف جده اليهودي، هو ابن مهاجر مجري إلى فرنسا[52]. وفي عام 1983، وبعمر 28 عاماً أصبح ساركوزي أصغر المحافظين سناً، لمدينة نويي، وبقي في منصبه هذا، حتى عام 2002، أي إلى حين دخوله إلى حكومة رافارين. وهذه المدينة التي تقع غربي باريس تقطنها جالية يهودية نشطة قوامها 10 آلاف نسمة، وهي إحدى المدن الأغنى في فرنسا. وهناك، عقد ساركوزي صداقات وبسرعة لافتة مع عائلات غنية ومشهورة، حتى إنه كان لا يفوّت المناسبات اليهودية في كنيس المدينة[53]. ولا يعود مستغرباً أن تكون زوجته الثانية سيسيليا ألبانيز هي ابنة مؤلف موسيقي إسباني من أصل يهودي[54].
ومنذ وصوله إلى منصب وزارة الداخلية، تولى الحملة الرسمية لمواجهة تصاعد الكراهية لليهود في فرنسا بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، بالتعاون مع مركز ويزينثال اليهودي. وبالغ في تأييد اليهود حتى خشي البعض منهم من ارتداد هذه الاستراتيجية عكسياً، بأن تقوى النزعات المعادية لليهود[55].
وعندما كان وزيراً للداخلية التقى عام 2003 مع أعضاء الهيئة الأمريكية اليهودية AJC، وهي إحدى أهم المنظمات اليهودية، حيث تضم 125 ألف عضو ومناصر، ولديها مكاتب في 33 ولاية و8 مكاتب في بقية العالم، منها ستة في أوروبا، وواحد منها في باريس. وتتميز هذه المنظمة عن لجنة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية أو الإيباك، بأنها ذات نفوذ دولي واسع، وهدفها الدفاع عن إسرائيل ومكافحة العداء لليهود، وهي جماعة ضغط (لوبي) تخدم سياسات المحور الحكومي الأمريكي الإسرائيلي. ثم عاود اللقاء بالمنظمة المذكورة، حين أصبح وزيراً للاقتصاد والمال والصناعة في الحكومة الثالثة لرافارين، حين حضر غداء تكريمياً بدعوة منها، حيث قال: “بعض الفرنسيين يلقبونني بساركوزي الأمريكي وأنا فخور بذلك”، وكان اللقاء مؤشراً مبكراً على قرب ترشحه للرئاسة، وفي آب (أغسطس) من العام نفسه، كتبت الأسبوعية اليهودية الأمريكية “Forward” مقالاً عن اللوبي الصهيوني في فرنسا، وذكرت ساركوزي من بين الشخصيات المدعومة من هذا اللوبي[56]. وفي كانون الأول (ديسمبر) 2005، طلب ساركوزي من قيادات إسرائيلية حكومية وأمنية المساعدة في نقل تجربة قمع الاضطرابات في فلسطين إلى فرنسا، تحت عنوان ضبط النظام العام، حين بدأت تظهر الاضطرابات في ضواحي باريس[57]. وفي عام 2006، عاد ساركوزي وزيراً للداخلية في حكومة فيلبان، وقام بزيارة غير رسمية إلى الولايات المتحدة، والتقى فيها قادة المنظمات الصهيونية مجدداً[58]، وبدا أن المحافظين الجدد وقد خسروا القاعدة الانتخابية في الولايات المتحدة وفي إيطاليا وإسبانيا وبريطانيا، لم يعد لديهم من أمل سوى فوز ساركوزي بالانتخابات الرئاسية الفرنسية[59].
وفي آب (أغسطس) 2007، وفي أول خطاب له، أمام مؤتمر السفراء، يتناول فيه السياسة الخارجية بعد انتخابه، كرّر ساركوزي ست مرات عبارة (الصراع بين الغرب والإسلام)، وبدأ بترجمة اصطفافه إلى جانب واشنطن، بإرسال طائراته القتالية إلى جنوبي أفغانستان[60].
وإذا كان الاندماج مجدداً في حلف الأطلسي كان قراراً جريئاً من زعيم حزب ديغولي، لإرجاع فرنسا إلى الأطر المؤسساتية ولتكون فرنسا على طاولة المفاوضات في أي شأن دولي مهم، فإن رجاء ساركوزي بقيام محور فرنسي أمريكي لم يكن مستحيلاً لو بقي جورج بوش في السطة، فباراك أوباما ليس مهتماً بأوروبا كما كان حال بوش الابن، ولا يوجد انسجام شخصي بين الرجلين، حتى إن ساركوزي وفي عشاء في قصر الإليزيه في 15 نيسان _أبريل) 2009، قال عن أوباما: “إنه ضعيف وقليل التجربة ومستشاروه سيئون، حيث لم يقم في السابق بإدارة أي وزارة أبداً، وليس لديه شيء ليقوله حول الاحتباس الحراري العالمي”.
وبخلاف خطابه الأيديولوجي السابق على توليه الرئاسة، تلاشت بسرعة صورة المرشح المؤيد لحقوق الإنسان، لتظهر ملامح الرئيبس اللاهث وراء المصالح الآنية، خاصة في العلاقات التي نسجها مع الأنظمة الديكتاتورية لا سيما في العالم العربي، بحجة عدم إخلاء الساحة للحركات الإسلامية. وإذا كانت وساطته بين روسيا وجورجيا لوقف الحرب بينهما عام 2009، قد تحولت إلى فضيحة دبلوماسية، واعتبر الاندفاع اللاحق نحو روسيا مناقضاً للمصالح الجيوسياسية البعيدة لأوروبا وفرنسا، إذ بدلاً من ضمان خروج الجيش الروسي من أوسيتيا وأبخازيا المنفصلتين عن جورجيا الموالية للغرب، عقد ساركوزي صفقة توريد حاملات طوافات مع روسيا، بما يعزز القدرة اللوجيستية للجيش الروسي في البحر الأسود. ثم أتى تبنيه إعادة تأهيل القذافي دولياً، واستضافته لخمسة أيام في باريس في كانون الأول عام 2007، والاتفاق على توريد مفاعل نووي سلمي إلى ليبيا، ومعدات أخرى بقيمة 10 مليارات يورو، ومن بينها 21 طائرة بقيمة 3,2 مليار يورو، كإحدى الخطوات الاستعراضية الأكثر إثارة للتساؤل حتى في الأوساط الفرنسية الحكومية نفسها[61]. لهذا، فإن انقلاب ساركوزي على نفسه مرة أخرى، ليكون رأس الحربة دولياً ضد القذافي، يثير تساؤلاً من نوع آخر، فإذا كان تبني القذافي سابقاً من أجل إبعاد الإسلاميين، فهل تبنيه للثوار الآن يخدم الهدف نفسه؟
فرنسا وشمالي إفريقيا:
ومهما كانت الصفة المناسبة التي يختلف حولها المراقبون الغربيون الآن، لوَسْم تدخل ساركوزي إلى جانب الثوار، أي إنْ كان ذا طابع انتخابي أو أخلاقي، فإن الأفضل لدى درس مواقف قوة استعمارية كفرنسا، هو الرجوع إلى المصالح البعيدة المدى التي تدفع ساركوزي إلى اعتماد هذا الخيار الاستراتيجي، لا سيما وأن لبلاده روابط قديمة مع معظم دول المغرب ومصالح مستقبلية أيضاً، ولا تُستثنى منها ليبيا، ولهذه المصالح أُسُس جيوسياسية واقتصادية بالغة الأهمية.
فمنطقة المغرب العربي تعتبر عموماً منطقة نفوذ فرنسية منذ عام 1830 تاريخ احتلال فرنسا للجزائر. وبعد نهاية الحرب الباردة وضعت فرنسا استراتيجية جديدة ذات أولوية، لإبقاء تونس والمغرب والجزائر، ضمن فلكها الاقتصادي والسياسي والثقافي من خلال آليات جديدة طوّرتها خلال مرحلة ما بعد الحرب الباردة التي تُعتبر من حيث الجدوى أكثر فائدة لفرنسا من الاستعمار القديم أو التقليدي. وتشكل المنطقة إحدى أهم دوائر السياسة الخارجية الفرنسية، وهو الذي عبّر عنه الرئيس السابق فرانسوا ميتران في القمة الفرنسية الإفريقية التي انعقدت في فرنسا عام 1994، حين أكد أنه “بدون هذه المنطقة لن يكون لفرنسا تاريخ في القرن الواحد والعشرين، فالمنطقة كانت مجد فرنسا ومنطقة نفوذها التاريخي، لذا من الصعب تخيل قيام رئيس أو حكومة في فرنسا أياً ما كانت توجهاتها بالتخلي عنها”. وما أدلى به ميتران حينئذ هو استمرار لسياسة قديمة، حيث سبقه إلى ذلك الجنرال ديغول الذي أرسى تقليداً لا يزال سارياً وصولاً إلى ساركوزي، ويُشرف بموجبه رئيس الدولة بمعاونة مستشاريه على ملف الشؤون المغاربية ويصنّف هذا الملف بأنه بالغ السرية. وتسعى الدبلوماسية الفرنسية إلى استرجاع مكانتها في المنطقة بواسطة سلسلة من المواقف والسياسات التي تستجيب لتبدلات السياسة الخارجية، وتتمسك فرنسا بالحضور فيها بشكل انفرادي ومؤثر عن باقي الإمبرياليات في العالم[62].
ولما كان الصراع بعد الحرب الباردة قد تحوّل من طابعه الأيديولوجي العسكري إلى منطق التنافس الاقتصادي القائم على استغلال الفرص والموارد، لذلك تُعتبر منطقة المغرب العربي من بين أولويات السياسة الخارجية الفرنسية، إضافة لارتباطها التاريخي معها وقرب المسافة بينهما، حيث إن أي خطر يهدّد المنطقة يمكن أن يصل إلى فرنسا باعتبارها بوابة أوروبا على الجهة المتوسطية، ومنها المزاحمة الدولية في المنطقة نتيجة موقعها الاستراتيجي الهام وامتلاكها مصادر الطاقة وغيرها من الموارد الاقتصادية المهمة[63].
لقد تدهورت مكانة فرنسا مع نهاية القرن التاسع وبداية القرن العشرين من دولة كبرى إلى دولة ثانية وقوة متوسطة، بسبب النتائج الكارثية التي خلفتها الحربان العالميتان الأولى والثانية، اقتصادياً وعسكرياً. وشكّل قيام الجمهورية الخامسة عام 1958 على يد مؤسسها شارل ديغول، نقطة تحوّل في تاريخ السياسة الخارجية لأنه أعاد بناء أسس الدولة الفرنسية داخلياً وخارجياً، إذ يقوي الدستور من صلاحيات السلطة التنفيذية بشكل واسع، ولا سيما رأس السلطة بشخص رئيس الجمهورية في نظام شبه رئاسي[64].
وتمحورت السياسة الخارجية الديغولية على الاستقلال الوطني، ورفض المظلة الأمريكية، والحوار مع الشرق (الكتلة السوفياتية)، وتصفية الاستعمار الفرنسي، والتخلص من الماضي الاستعماري من أجل إعادة تعريف مكانة فرنسا ودورها في النظام الدولي، وشهدت هذه السياسة نوعاً من الاستمرارية بين كل الرؤساء الذين جاؤوا في مرحلة الحرب الباردة وهم جورج بومبيدو وفاليري جيسكار ديستان وفرانسوا ميتران[65].
وحين رفضت أمريكا منح فرنسا دوراً متميزاً داخل حلف الأطلسي أعلن ديغول في آذار (مارس) 1966، الانسحاب من مجلس وزراء الدفاع التابع للحلف، ومن اللجنة العسكرية التي تضم قادة القوات المسلحة للدول الأعضاء، وكذلك سحب الأسطول الفرنسي من الجناح العسكري، وظلت فرنسا عضواً في الجناح السياسي للحلف، وجاء قراره هذا بعد تحقيق الاستقلالية العسكرية الردعية بامتلاك القنبلة النووية عام 1964، وإرساء سياسة الوفاق مع ألمانيا ليصبح المحور الجديد نواة أوروبا المستقلة سياسياً واقتصادياً[66].
ومع انهيار نظام الثنائية القطبية بعد الحرب الباردة، بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، برزت مسألة إعادة التفكير في النظام الدولي وصراعاته الجديدة، وأبرز هذه التغيرات:
– ظهور مفهوم النظام الدولي الجديد الذي يكرّس هيمنة الولايات المتحدة.
– تراجع دور العامل العسكري في تحديد معالم السياسة الدولية.
– تبلور دور العامل الاقتصادي والتكنولوجي كمحدّد للعلاقات الدولية[67].
لذلك، وضعت فرنسا بعد الحرب الباردة خططاً جديدة لسياساتها الخارجية، من حيث إعادة ربط علاقاتها مع ألمانيا والدخول في الاتحاد الأوروبي، بهدف التوصل إلى سياسة خارجية وأمنية أوروبية مشتركة، واعتماد عملة أوروبية مشتركة، وضبط علاقاتها مع الولايات المتحدة والحلف الأطلسي بما يتوافق مع المصالح الفرنسية، بالإضافة إلى احتفاظها بنفوذها في إفريقيا، وخاصة منطقة المغرب العربي، مع حرصها على ضبط علاقات ودية مع الدول العربية، كما أن نهاية الحرب الباردة لم تَحُل دون تراجع فرنسا عن التمسك بهذا النهج رغم تداول الاشتراكيين والليبراليين على الحكم، فالمرتكزات الأساسية لا تتغيير بتغير القيادات السياسية، وحتى لدى الاشتراكي فرانسوا ميتران الذي حكم فرنسا في فترة الحرب الباردة وما بعدها، أو جاك شيراك الذي دعم الخط الديغولي في السياسة الخارجية الفرنسية إلى حدٍّ كبير[68].
ويمكن تلخيص الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الفرنسية فيما يلي:
– السعي لعالم متعدد الأقطاب وخاصة بعد الحرب الباردة وإثر حرب الخليج عام 1990-1991، من أجل تكوين اتحاد أوروبي قوي مع العلم أن فرنسا تطمح لتحقيق الريادة في أوروبا.
– عدم استبعاد القوة العسكرية على أن تكون في إطار جماعي إذا ما استدعت الضرورة ذلك، وبعد استنفاد كل الحلول غير العسكرية.
– ضبط علاقاتها مع الولايات المتحدة لأن ضبطها مصيري بالنسبة للسياسة الخارجية الفرنسية.
– تركيز فرنسا بعد الحرب الباردة على فكرة القوة الناعمة بدل القوة الصلبة مثل حقوق الإنسان والقانون الدولي..
– التكيف مع ماضيها الاستعماري عن طريق إيجاد استراتيجيات جديدة للتعامل مع مستعمراتها القديمة، والتي ما زالت تشكّل لها مصدراً هاماً لمصادر الطاقة والمواد الأولية الأخرى، وتضمن لفرنسا هيبتها ومكانتها الدولية.
– تدعيم أداة الردع النووي، حيث برزت مع نهاية الحرب الباردة رهانات جديدة في المنظار الاستراتيجي الفرنسي، مثل مخاطر الاضطرابات السياسية والعرقية والدينية والاقتصادية والديمغرافية في المحيط المجاور لجنوبي أوروبا، وتهديدات انتشار أسلحة الدمار الشامل في هذه المناطق، إذ حسب تقديرات الاستراتيجيين الغربيين، فإن دول أوروبا وبخاصة فرنسا ستكون بين عامي 2010 و2015 عرضة لضربات تدميرية بصواريخ ذات مدى يصل إلى 4500 كلم، ستكون بمتناول دول معادية في الشرق الأوسط أو شمالي إفريقيا[69].
وفي 5 كانون الأول (ديسمبر) عام 1995، استرجعت فرنسا عضويتها في اللجنة العسكرية لحلف الأطلسي، لكن لم يكن هذا كافياً لاضطلاعها بدور فعال في الحلف[70].
وتقوم ركائز السياسة الخارجية الفرنسية حالياً على ما يلي:
– تعزيز الدور العالمي لفرنسا كقوة تاريخية كبرى، ولها مصالح حيوية عالمية وإقليمية ورثتها من العهد الاستعماري.
– العظمة، وقد عبّر عنها ساركوزي في كتابه “معاً”، قائلاً: “عندما أفكر في فرنسا لا أقارنها بأي بلد آخر أو إقليم، لأن فرنسا هي بالنسبة لي معجزة”.
– الاستقلالية، وهي إحدى أهم ركائز السياسة الخارجية وثوابتها.
– سعي فرنسا الدائم للوجود على الساحة الدولية لإسماع صوتها في المؤتمرات والمحافل الدولية وكذلك المشاركة الفعالة في القضايا الدولية الكبرى.
– الحفاظ على مكانة بارزة بين الدول سواء في أوروبا أو في العالم ككل[71].
وعليه، فقد عملت فرنسا بعد نهاية الحرب الباردة على إطلاق عدد من المبادرات والسياسات على مختلف الأصعدة وخاصة الاقتصادية منها، سواء في إطار العلاقات الثنائية أو بشكل جماعي تحت لواء الاتحاد الأوروبي وذلك في إطار الشراكة الأوروبية المتوسطية، ولكنها مع ذلك سعت للإبقاء على نفوذها بشكل منفرد مع دول المغرب العربي، لا سيما مع قيام دولها ببعض الإصلاحات وتبني للمبادئ الليبرالية والتحول نحو الديمقراطية والانفتاح السياسي، ثم إنها أسواق ناشئة ذات آفاق مستقبلية للمنتجات الفرنسية في عصر العولمة، وقد عرفت شركاتها الاقتصادية تمركزاً كبيراً في هذه المنطقة[72].
وما أن وصل ساركوزي إلى الرئاسة عام 2007، حتى أكد مبادرته لإقامة الاتحاد من أجل المتوسط كأولوية، خاصة بعد فشل الحوار الأوروبي المتوسطي الذي بدأ في برشلونة عام 1995، والاعتبارات التي دفعته لإطلاق هذا المشروع هي:
– القيام بدور المهيمن داخل حوض المتوسط واستعادة النفوذ في المغرب بعد انشغال سلفه شيراك في أزمة لبنان والشرق الأوسط.
– استعادة موقعها داخل الأطلسي سعياً لدور الشريك في عالم متعدد.
– مواجهة النفوذ الألماني المتصاعد مع توحيد ألمانيا وتزايد نفوذها في أوروبا الشرقية.
– إغلاق الباب أمام الهجرة غير الشرعية وفتح الباب انتقائياً أمام الكفاءات بما يتناسب وحاجات فرنسا الديمغرافية والاقتصادية وإعادة تأهيل المقيمين على أراضيها ودمج الأجانب مع أنماط القيم السائدة في المجتمع الفرنسي.
– مواجهة تنامي النفوذ الأمريكي والصيني في منطقة المغرب العربي والمتجسد في المشاريع والاستثمارات[73].
وهذا ما أوصل علاقات فرنسا مع ألمانيا إلى نوع من التوتر، فألمانيا رغم اعتبارها أوروبا الشرقية مجال نفوذها الخاص لا يشاركها فيه أحد، لكنها تعارض السياسة الانفرادية لفرنسا في المغرب العربي، حيث تؤكد على ضرورة إشراك كل دول الاتحاد في كل المبادرات الفرنسية نحو منطقة المتوسط. وبعد لقائه مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في هانوفر في آذار (مارس) 2008، عُدِّل المشروع ليجمع بين مسار برشلونة أي الحوار الأوروبي المتوسطي ومبادرة ساركوزي فصار الاسم مركباً أي: عملية برشلونة: الاتحاد من أجل المتوسط، لكن التعديل المذكور أفقد فرنسا دورها المهيمن الذي كانت تسعى إليه[74]. أما اقتراح الاتحاد من أجل المتوسط فقد كان يهدف أيضاً لإبقاء تركيا خارج الاتحاد الأوروبي، ليكون المشروع الجديد بديلاً لتركيا عن العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، وهو ليس مبنياً على استراتيجية بعيدة المدى، بل لأهداف انتخابية مصلحية مع الخوف من صعود اليمين المتطرف، وإقصاء الدول الأوروبية غير المشاطئة للمتوسط، ولا سيما ألمانيا. وبعد تعديله بضغط ألماني، وعد ساركوزي تركيا بأن لا يكون الاتحاد من أجل المتوسط بديلاً عن العضوية في الاتحاد الأوروبي[75].
استنتاج:
لم يترك ساركوزي ومنذ تسلمه السلطة عام 2007، أي مناسبة دون أن يبرهن أنه إسرائيلي الهوى، أمريكي التوجه، كما كان يردّد دائماً، قبل سنوات من انتخابه، وذلك في لقاءاته المتكررة مع قيادات اللوبي الصهيوني في فرنسا وفي الولايات المتحدة. فكان عدائياً مع مسلمي فرنسا، لا سيما في مسألة النقاب وتشديد القيود على الهجرة، وكان حماسياً في الدفاع عن اليهود وإسرائيل. وزاد على ذلك، تقاربه المنهجي مع طغاة العالم العربي لا سيما بشار الأسد في سوريا، وحسني مبارك في مصر، وزين العابدين في تونس، ومعمر القذافي في ليبيا، ومشاركته النشيطة في حرب أفغانستان إلى جانب قوات حلف الأطلسي الذي عادت فرنسا إليه بعد أربعين سنة من الغياب. لكن نشوب الثورات الشعبية في البلدان التي يحتفظ فيها ساركوزي بعلاقات وثيقة مع قادتها، هزّ بعنف أسس الاستراتيجية المعتمدة لديه، فكان الموقف من ثوار ليبيا منعرجاً كبيراً، لا بد من البحث عن دوافعه، فكيف إذا كان الفيلسوف اليهودي برنارد هنري ليفي هو عرّاب هذا المنعطف في السياسة الفرنسية، وهو المعروف بتأييده الشديد لإسرائيل، وعدائه الأشد للحركات الإسلامية، حتى وهو يدعم قضايا الشعوب الإسلامية المضطهدة، في بعض نواحي الشرق والغرب؟
إن دعم فرنسا لثوار ليبيا، ينسجم مع الاستراتيجية الشاملة التي ترى في كل شمالي إفريقيا حديقة خلفية لها، وعنصراً جوهرياً في حفظ أمن أوروبا وفرنسا. وإذا كانت لفرنسا علاقات تاريخية استعمارية مع الجزائر والمغرب وتونس، فإن ضم ليبيا إلى الكتلة المغاربية يحقق مصالح كبرى لا شك فيها، فلا يكون الانحياز المبكر إلى جانب الثوار ضد نظام القذافي، سوى استثمار ناجح بعيد المدى.
الفصل الثالث: الموقف التركي
أثارت حكومة رجب طيب أردوغان عام 2010 تساؤلات عدة في الأوساط الغربية، بعد مواقف دبلوماسية غير اعتيادية إزاء قضايا الشرق الأوسط، حول ما إذا كانت تركيا تحت راية حزب العدالة والتنمية قد بدأت تنعطف بسياساتها الخارجية عما كان معهوداً منها، كعضو في حلف الأطلسي، وجزء من المنظومة الغربية خلال الحرب الباردة، وكحليف وثيق لإسرائيل. ففي منتصف أيار (مايو) عام 2010، رعت مع البرازيل صفقة ثلاثية مع إيران، تقضي بشحن ما بين 55 إلى 60 % من اليورانيوم الإيراني المنخفض الإشعاع إلى تركيا، لتخصيبه في الخارج، في محاولة لتخفيف التوتر بين إيران والغرب، لكن الولايات المتحدة رفضت الصفقة، وشدّدت الضغوط لاستصدار عقوبات جديدة على إيران، وهنا اتخذت تركيا أيضاً موقفاً اعتراضياً غير مسبوق عندما رفضت مع البرازيل هذه العقوبات. وفي أواخر هذا الشهر نفسه، حاولت سفينة تركية كسر الحصار المضروب على غزة، فاعترضتها قوة كوماندوس إسرائيلية بحرية وقتلت تسعة من ركابها الأتراك، فتوترت العلاقات مع إسرائيل بشدة، وطالب أردوغان إسرائيل بالاعتذار عما ارتكبته. وبدا منذ تلك الحظة المشحونة بالعواطف، أن أردوغان راح يتجه شرقاً نحو البلدان العربية وإيران، وكذلك نحو الصين، بعدما ظلت تركيا تراهن لسنوات طويلة على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي دون جدوى[76]. لكنه في ذلك، لم يكن يقصد سوى تنفيذ الرؤية الجيوسياسية لوزير خارجيته أحمد داود أوغلو، والتي تتلخص بعبارة واحدة هي: “لا عداوة مع أحد، ومصالح اقتصادية مع الجميع”. وقد تجلت هذه الرؤية بفتح القنوات مع كل الأعداء الجيران لتركيا حتى مع أرمينيا واليونان، وقبل أن يثمر الانفتاح التركي، انطلقت الثورات العربية من تونس فمصر، ثم حطّت رحالها في ليبيا واليمن، وهدّدت أخيراً سوريا البوابة الاستراتيجية لتركيا نحو المشرق العربي، فكانت مفاجأة شديدة لأردوغان ورفاقه، فظهرت مواقفه متسرّعة حيناً ومتباطئة حيناً آخر، لا سيما في ليبيا حيث حاولت تركيا إمساك العصا من الوسط، فبدت معارِضةً لتدخل حلف الأطلسي، ثم مشاركةً في بعض الأعمال الإنسانية، وعارضةً لخطة سلام بين القذافي والثوار[77]، دون أن تقطع الصلة الدقيقة مع أي طرف رغم حرجها الشديد، فما هي الدوافع الحقيقية للموقف التركي الغامض؟ ولماذا تقف بعيداً خلف فرنسا مثلاً في دعمها الثوار؟ وهل كانت تخشى انتقال الشرارة إلى جارها الجنوبي، سوريا؟
من أجل جلاء الموقف، لا مناص من قراءة متأنية للفكر الجيوبوليتيكي الجديد الذي صاغه أحمد داود أوغلو وهو في المجال الأكاديمي، قبل أن تتحول نظرته إلى برنامج عمل الدولة التركية، من موقعه كمستشار رئيس الحكومة عام 2002، ووزير خارجيتها منذ عام 2009.
تركيا الجديدة:
إن أوغلو في كتابه المرجعي “العمق الاستراتيجي” يراجع الموقف السلبي والجامد لتركيا في عهد العلمانيين الأتاتوركيين، مؤكداً وجود “نقاش في تركيا حول القوة الحقيقية الكامنة لتركيا في مجال علاقاتها الدولية، وإلى أي مدى يمكن استخدامها في علاقاتها الدبلوماسية، وذلك بين اتجاهين: الأول يحاول أن يؤسس لفكرة أن تبقى تركيا رهينة السياسات المرتبطة بمراكز القوى المتشكّلة خارجها، عن طريق إظهار القوة الكامنة إلى أقل من المستوى الذي يمكن أن تكون عليه، من خلال عمليات تقييم جامدة ومرتبطة بأوضاع مرحلية، والاتجاه الثاني يقدّم تقديرات متفائلة أكثر من اللازم بمراهنته على استطاعة تركيا تفجير قوتها بشكل جدي، دون أن يقوم بتحليل جديد وديناميكي لعناصر القوة الثابتة والمتغيرة التي تمتلكها تركيا في ظل الوضع الدولي الجديد”[78]. ويشير أوغلو هنا، إلى التيار العلماني الذي تبنى منذ إلغاء الخلافة العثمانية سياسة الارتباط بمحور الغرب، والتيار العثماني الجديد الذي دعا عقب الحرب الباردة إلى مدّ النفوذ التركي إلى المجال العثماني السابق، وهو يرى أن الموقفين ليسا واقعيين، فلم يعد بالإمكان البقاء في العزلة الاختيارية مع التغيرات الجذرية التي أصابت المنطقة والعالم، كما أنه لا يمكن استعادة السياسة العثمانية من دون فهم حقيقي للمعطيات ثابِتها ومتغيرِها، حيث لا إمكانيات واقعية للقيام بالدور التاريخي ذاته.
ويمضي أوغلو في تحديد معالم وجهتي النظر بخصوص قوة تركيا، فيقول: “هناك فروق كبيرة في النظرة إلى عناصر التاريخ والجغرافيا والثقافة والسكان، التي تشكّل المعطيات الثابتة في تكوين السياسة الخارجية، بين النخب السياسية والبيروقراطية، أو بين أفراد الشعب بشكل عام، لعدم إمكانية حدوث تغير أساسي على المدى القصير، وبينما يرى البعض أن عناصر التاريخ والثقافة هي أهم مرتكزات السياسة الخارجية، يراها البعض الآخر كأكبر عراقيل في هذا المجال. ولا يختلف الحال كذلك فيما يتعلق بمعطيات القوة المتغيرة التي تُظهر تباينات جدية في وجهات النظر المتعلقة بالاقتصاد والتكنولوجيا والقدرة العسكرية كعناصر تستطيع إحداث تغير خلال مرحلة قصيرة من خلال الإرادة السياسية والطريقة المتبعة في تسيير هذه الإرادة”[79].
ثم يستخرج أوغلو جذور المدرسة التركية الانعزالية من أواخر العهد العثماني حين “شهد القرن التاسع عشر نزعة استعمارية أدت إلى أن تطوِّر القوى الكبرى استراتيجيتها القومية في هذا الاتجاه، بينما لم يكن للدولة العثمانية إلا همّ واحد في ذاك القرن، وهو المحافظة على الوحدة الداخلية، ومنع فقدان مزيد من الأراضي. ومع مرور الزمن أصبحت وجهة النظر الجامدة هذه التي تستند إلى استراتيجية دفاعية على طوال الحدود الحدودية للدولة العثمانية، تقليداً متبعاً في سياستها الخارجية. ومع ظهور نتائج استراتيجيات الدول الكبرى، أخذت الخطوط العثمانية تنسحب إلى الوراء شيئاً فشيئاً، وأصبحت الجهود تنصب على المحافظة على الأوضاع الثابتة الجديدة. وهكذا كلما فُقدت قطعة جديدة من الأراضي، عاشت الدولة في حالة من الارتباك نتيجة قلقها على الأراضي الموجودة حتى لا تفلت من يدها، كما قطعت العلاقة مع المناطق الموجودة خلف الخطوط الجديدة. واتخذت الخطة الاستراتيجية في هذا المجال خياراً متوسطاً بين حدّين متطرفين: الأول يدعو إلى السيطرة المطلقة، والثاني يدعو إلى التخلي المطلق ونسيان البلاد التي خرجت عن نطاق سلطة الدولة، وأصبح الهمّ هو الدفاع عن الخطوط الجديدة. وأدى ذلك إلى عرقلة كل الجهود الرامية إلى تكوين معادلة تكتيكية لساحات التأثر الواقعة بين السيادة المطلقة والتخلي المطلق، وعرقلة الجهود الرامية للحفاظ على الخطوط الحدودية عن طريق المناورات الدبلوماسية الخارجية، وتشكيل ساحات مناورة تكتيكية عن طريق استغلال صراع المصالح بين القوى الكبرى”[80]. وعليه، يعتبر أوغلو أن السلطان عبد الحميد الثاني اتبع سياسة توسعية مختلفة عن التقليد السائد في فترات التراجع، وهي من الاستثناءات المهمة في المراحل الأخيرة للدولة العثمانية، حيث من الواضح أن عامل التأثير الذي شكّله السلطان على المسلمين الواقعين تحت حكم الاستعمار خلف الحدود قد أخّر ومنع السياسات التوسعية التي طمحت إليها القوى الكبرى المعادية للدولة العثمانية. لأجل ذلك، لم تفقد الدولة العثمانية شيئاً من أراضيها طوال مدة حكمه لمدة 33 سنة، باستثناء الأراضي التي فُقدت في حرب 1893[81]، في حين أنه في بداية عهد الاتحاد والترقي، وهي فترة قصيرة، حيث اعتمد سياسة السيطرة المطلقة أو التخلي المطلق، فقدت الدولة العثمانية المحور الذي يضم البلقان والشرق الأوسط، أي الركن الأساسي الذي تعتمد عليه الدولة في وضعها كدولة من الدول العظمى. كما أن التأرجح ما بين طرفي السياسة قد عمل على تضييق الأفق الاستراتيجي الدولي في تقاليد السياسة الخارجية العثمانية/التركية، وأضعف خياراتها التكتيكية، وأزال تأثيرها على المناطق المجاورة، ووضعها في حلقة مفرغة توجّهها تجاذبات السياسة الداخلية والتهديدات الخارجية، بل لم يتحقق الانسجام بين ضرورات السياسة الخارجية وبين الثقافة السياسية الداخلية[82].
لقد عمل عبد الحميد الثاني على ترسيخ السياسة التوازنية إزاء المصالح الاستراتيجية للقوى العظمى، عبر موازنة القوى بين القريب العدو المؤثر (روسيا) والعدو البعيد الكامن (بريطانيا)، وأصبحت التحالفات والائتلافات المتعاقبة داخل أوروبا، تقليداً للسياسة الخارجية، مطبّقاً السياسة المذكورة من خلال دبلوماسية دقيقة ومرنة. وحاول عبد الحميد الثاني تكوين ساحة تأثير تتحقق فيها مصالح دولية أو ما يسمى الحديقة الخلفية، والتي تتمثل في المسلمين الذين يعيشون تحت الاستعمار خارج حدود الدولة العثمانية. وظهر تعريف جديد لمفهوم الحديقة الخلفية في عهد الاتحاد والترقي مختلف عما كان عليه في العهد العثماني في إطار من النزعة القومية التركية، فاستمر الاتحاديون في استخدام فكرة الوحدة الإسلامية[83] كأداة تكتيكية ضد الدول الاستعمارية، وأدرك زعماء الاتحاد والترقي أن مكانة وقوة الدولة العثمانية في النظام الدولي ناتجة عن وضعها كدولة حامية للمسلمين في مواجهة القوى الاستعمارية، لذا فقد تمّ الاهتمام بالحفاظ على العلاقة بين الدولة والشعوب الإسلامية. وكان السبب الأساسي الذي وجّه قادة حزب الاتحاد والترقي لتوريط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، هو محاولة الوصول إلى وضع دولي جديد من خلال قفزة مرحلية بأفكار قومية، ذات محور قومي تركي، مع تلقي الدعم العسكري الألماني الذي كان يعتقد أنه قوة لا تُقهر، وقد أدت الحسابات الخاطئة الناتجة عن ضعف العقلانية الاستراتيجية وغياب مثل هذه التكتيكات المرحلية عند قادة الاتحاد والترقي إلى سقوط آخر نقطة مقاومة في الشرق[84].
وبناء على هذه القراءة التاريخية الجيوسياسية، يقترح أوغلو أن تستعيد تركيا استراتيجية عبد الحميد الثاني، لكن بوجه مصلحي اقتصادي، أكثر مما هي نزعة عثمانية إسلامية، لأن الدفاع عن الحدود الحالية لتركيا، لا تبدأ منها بل من الدوائر المحيطة بها والمتفاوتة في قربها أو بعدها، من الدولة التركية الراهنة، وكذلك الأمر بالنسبة للحفاظ على وحدتها الوطنية من آثار الشقاق المزمن بين الترك والكرد، وإمكانية استغلال أعدائها التاريخيين للظروف الداخلية والخارجية للمطالبة بأراضٍ فيها، لا سيما اليونان وروسيا.
لذلك “يجب على تركيا – حسب أوغلو – تقييم سياساتها تجاه البلقان بالابتعاد عن نفسية الحفاظ على شرقي تراقيا[85] وإسطنبول من أراضيها الأوروبية، والتي شكلتها الذكريات الأليمة لفاجعة حرب البلقان، ورسختها مقاييس الحرب الباردة. وإن الدفاع عن تراقيا الشرقية وإسطنبول لا يتحقق عن طريق نشر وحدات تقليدية في هذه المناطق، بل يتحقق عن طريق استخدام مساحات التأثر التي يتم تكوينها في البلقان بشكل فعال في الدوائر الدبلوماسية والعسكرية”[86].
شكل 5: تراقيا الأوروبية
كما أن “أهم الأسباب التي أدت إلى الإهمال السياسي التركي حيال القوقاز لمرحلة طويلة هو فقدان الأمل بإمكانية بناء التأثير من جديد في شمالي وشرقي مرتفعات أرضروم[87]، والقلق النفسي الناتج عن الخوف من تكرار فاجعة حرب 1893 من جديد، ولذلك تركزت الاستراتيجية الجديدة التي حددها حلف شمالي الأطلسي على الدفاع عن جنوبي وغربي مرتفعات هضبة أرضروم، وتمّ إجراء حسابات حول مقدار الخسارة التي ستلحق بالقوات الروسية المتقدمة حتى سهل قونية. وبسبب هذه النفسية لم تخطّط تركيا لدعم عناصر حليفة في القوقاز أو استغلال التناقضات الداخلية الروسية. ويقف ضعف العامل النفسي خلف التناقضات السياسية وعدم الجاهزية التي تعرضت لها تركيا بخصوص مناطق القوقاز وآسيا الوسطى، بل على صانعي السياسة الخارجية التركية، التخلي عن مخاوفهم النفسية، واتباع سياسة جريئة تستند إلى حلول وسطية وديناميكية، وفي حال أُهملت المكتسبات التي يمكن تحقيقها عن طريق سياسة جريئة وبصيرة في ظل الظروف الملائمة لتطورات الوضع، فستكون نفقات الدفاع عن شرقي الأناضول أكثر مما يتوقع الآن. وإذا كان الدفاع عن تراقيا الشرقية وإسطنبول يبدأ من البحر الأدرياتيكي وساراييفو، فإن الدفاع عن شرقي الأناضول وأرضروم يبدأ من شمالي القوقاز وغروزني”[88].
وبالنظر إلى الشرق الأوسط يقول أوغلو: “إن تخلي تركيا عن كل الجسور السياسية والثقافية والاستراتيجية مع الشرق الأوسط، من خلال اتباعها سياسة إدارة الظهر عن هذه المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، منع تركيا من أن تستفيد من الميزات التي تمتلكها والناتجة عن حكمها لهذه المنطقة حوالي 500 سنة، من أجل تقاسم الموارد الطبيعية في هذه المنطقة التي تشكل عاملاً مهماً في التأثير على العلاقات الدولية، والاستثناء الوحيد هو سياسة أتاتورك تجاه لواء الإسكندرون حين استغل – وبتوقيت مناسب – الفراغ الذي تركه الانسحاب الفرنسي، والوضع الغامض الذي شهدته مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية. ومن خلال سياسة إدارة الظهر التي اتبعتها تركيا تجاه الشرق الأوسط، واجهت تركيا مجموعة من المقاييس المحددة الثابتة من أجل تقاسم الموارد والقوة الخاصة بالمنطقة، وخصوصاً لدى شعورها بخسارتها في المجال الجيواقتصادي، فلم تستطع بناء التأثير الكافي لا على شعب المنطقة الذي أصبحت غريبة عنه، ولا على النخب السياسية فيه. وبدلاً من أن تجعل تركيا نفسها دولة لها مكانة تاريخية ومؤثرة في المنطقة، وذات علاقات جيدة مع هذه القطاعات لا سيما التي معها روابط جيوثقافية، اتجهت إلى إظهار اهتمامها بتأثير وضعها السياسي كممثل لمراكز القوة الدولية في الشرق الأوسط، وبذلك دخلت في مرحلة ازداد فيها اغترابها عن المنطقة يوماً بعد يوم”[89]. ولا سيما حين ظهرت في صورة أكثر دول المنطقة دعماً للاستراتيجية الإسرائيلية التي لا تمتلك سوى خمسين سنة في المنطقة[90].
وبرأي أوغلو، أن النزعتين الإسلامية والقومية التركية فقدتا دورهما الحقيقي في تشكيل الأرضيتين المهمتين لإمكانية تكوين الحديقة الخلفية، كمساحة تأثير تتحقق فيها المصالح في حوض القوة السياسية، الذي يشمل محور الأناضول والبلقان، والتي كانت إسطنبول مركزاً له. وأدى هذا الوضع الجديد إلى توجه إدارة الدولة الجديدة (دولة أتاتورك) إلى إعلان يمكن له أن يلقى القبول من الناحية الدولية، وهذا الإعلان الذي صرّحت به الدولة يقضي بتخلي الجمهورية عن كل المسؤوليات والطموحات الدولية بناء على عنصرين أساسيين هما:
الأول، تبني استراتيجية الدفاع عن الحدود القومية والدولة الوطنية بدلاً من الاستراتيجية ذات البعد الدولي.
الثاني، أن تكون الدولة التركية جزءاً من محور الغرب المتصاعد وليست بديلة منه أو معارضة له[91].
وعليه، فإن “التوازنات الجديدة التي ظهرت في العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، والعناصر الدولية الجديدة التي توجهها هذه التوازنات، تعني بالنسبة لتركيا العودة إلى مقاييس حرب القرم[92]، حيث أدت السياسة التي تهدف إلى موازنة التهديد القريب عن طريق التعاون مع محور القوة الظاهر في الطرف الآخر، إلى انضمام تركيا لحلف شمالي الأطلسي، ووجهتُها إزالة التهديد السوفياتي، وأصبحت هذه السياسة المبدأ الأساسي للسياسة الخارجية التركية التي استهدفت حماية الحدود، أكثر من كونها لتحقيق موقع جوهري لتركيا لنفسها في النظام الدولي. واستخدمت تركيا خيارها الاستراتيجي في هذه المرحلة باتجاه أن تكون دولة بمقياس إقليمي مرتبط بالمحور الأطلسي”. لذلك، فإن “تركيا التي مثلت نموذجاً لغيرها من الدول من الدول في سعيها للاستقلال عن الاستعمار، فوّتت فرصة تكوين ساحات تأثير خارجية لها، وسلكت طريقاً مخالفاً للتوجه العالمي الذي شكلته القوى المناهضة للاستعمار بسبب سياستها ذات المحور الواحد. وكانت السياسة التركية الخارجية تابعة لمقياسين هامين: البقاء تحت المظلة الأمنية الغربية بمواجهة التهديد السوفياتي، وارتهان الساحة الدبلوماسية للمشاكل مع اليونان”[93].
الاستراتيجية البديلة:
وللخروج من هذه العزلة التي لم يعد لها أي معنى، بل صارت عبئاً تاريخياً مزعجاً، يقترح أوغلو أنه “على تركيا أن تقوم بتفعيل خطة سلام لتطوير العلاقات من خلال البعدين الاقتصادي والثقافي في آن، بهدف تجاوز أزمة الثقة التي تعكّر صفو علاقاتها مع جيرانها، فلا توجد أي أسس موضوعية تجعل العلاقات مع الجيران متوترة بشكل دائم. وإذا أرادت تركيا أن تكون مؤثرة في المنطقة، فعليها إنتاج سياسات تستطيع من خلالها تخطي الجدران الموجودة بينها وبين جيرانها بدلاً من بناء جدار إلكتروني كجدار برلين”[94].
وأهم شيء لا بد من تغييره، كما يؤكد أوغلو، هو “وجهات النظر المتعلقة بالوضع الجيوسياسي، بما في ذلك اعتباره أداة تكتيكية للدفاع عن الحدود والحفاظ على الوضع الراهن، بل يجب رؤيته كأداة انفتاح على العالم ضمن خطوات مرحلية من أجل تحويل التأثير الإقليمي إلى تأثير دولي، وإن التقليد التي كانت تتبناه السياسة الخارجية في تفضيل الراحة بالحفاظ على الوضع القائم بدلاً من تحويل العامل الجيوسياسي إلى أداة تأثير دولية لا يستطيع حتى الحفاظ على حدوده الموجودة في الوقت الراهن. فقد كانت وحدة تركيا تشكل حاجزاً أمام امتداد الاتحاد السوفياتي إلى البحار الدافئة، ويمكن لهؤلاء أن يروا أن التأثير الجيواقتصادي التركي في الشرق الأوسط القائم على توازن الماء/النفط يتعارض مع مصالحهم، فيطالبوا بتغيير الحدود السياسية أو تشكيل مساحات تأثير جديدة بمنأى عن القانون الدولي”[95]. ولكي تتمكن تركيا من الانفتاح على المحيط الدولي بشكل مرحلي يتوجب عليها اعتماد أولويات تكتيكية ضمن ثلاث ساحات تأثير جيوسياسية هامة هي:
– المناطق البرية القريبة: البلقان والشرق الأوسط والقوقاز.
– الأحواض البحرية القريبة: البحر الأسود، وشرقي المتوسط، والخليج، وبحر قزوين.
– المناطق القارية القريبة: أوروبا، وشمالي إفريقيا، وجنوبي آسيا، ووسط وشرقي آسيا.
وهذه الأحواض تتشكل من أحزمة دائرية متداخلة، هي الأساس الجيوسياسي لاستراتيجة السياسة الخارجية التركية لتقوية وضعها في الساحة الدولية من خلال توسيع ساحات التأثير الإقليمية بشكل مرحلي. ولا يمكن لتركيا التخلص من موقعها كعنصر سلبي جانبي في النظام الدولي إلا من خلال عملية تجديدية تستثمر التداخلات والارتباطات المتبادلة بين الأحزمة الجيوسياسية بشكل جيد، ودمج ذلك مع ثقافتها السياسية الداخلية، وإلا ستفقد اعتبارها الموجود في هذه الأحزمة، وستكون تابعة لوضع راهن لا تستطيع من خلاله الحفاظ حتى على وحدتها الداخلية[96].
لقد كانت الدولة العثمانية تاريخياً دولة أوروبية وآسيوية وإفريقية، وحاولت تطوير سياستها حيال إفريقيا الشرقية والمحيط الهندي عبر سيطرتها على على شمالي إفريقيا والبحر، وتم إعطاء مصر دوراً مهماً في المناطق الصحراوية والبحرية الجنوبية، كالدور الذي أُعطي لإمارة القرم في سياسات السهوب الشمالية وأوراسيا، وكانت المنطقتان كجناحين للدولة، وعندما أضعف الروس مسار البلقان، وأضعف محمد علي باشا وابنه إبراهيم مسار الأناضول، في بداية القرن التاسع عشر، أدى ذلك إلى فقدان هاتين المنطقتين لأدوارهما، وما تلا ذلك من زعزعة التوازنات الداخلية للدولة العثمانية، وتعرّض المضيقين وإسطنبول للتهديد. وكانت الدولة العثمانية اتخذت سياسات جادة حيال ليبيا وتونس من أجل إحداث توازنات غربي المتوسط، ومن أجل اكتساب عمق صحراوي باتجاه الجنوب، واعتمدت استراتيجية امتدت لقرون، تهدف إلى الاستفادة من تأثير وفعالية البحر المتوسط في السيطرة على شمالي إفريقيا، ومن ثم الإشراف على القارة الأوروبية من هذه الجهة. ولعبت المهارة الإدارية والدبلوماسية والعسكرية للدولة العثمانية دوراً في إفريقيا الشمالية بنفس قوة دورها في أوروبا الشرقية[97]. فإن أرادت تركيا أن لا تبقى في ذيل الراكب في هذه المنافسة الصعبة، فيجب عليها أن تغير وجهة نظرها تجاه المناطق التي لم تهتم بها بشكل كافٍ، وفي مقدمة هذه المناطق إفريقيا. وبالرغم من عدم وجود اتصال مباشر لها مع إفريقيا، يتوجب على تركيا التي تبدي اهتماماً بتعزيز تأثيرها الدولي، أن تهتم بمناطق المنافسة الاقتصادية والسياسية الدولية، كما يجب تجديد روح السياسة الخارجية، من أجل الانفتاح على إفريقيا، والتركيز على المجالات الثقافية والاقتصادية في المراحل الأولى[98].
وحسب أوغلو، يمكن تحديد مناطق التأثر بين القارات التي تهمّ تركيا بشكل مباشر في أربع مناطق:
– منطقة حوض الأطلسي بين القارة الأمريكية وأوروبا.
– منطقة سهوب شرقي أوروبا والأورال التي تقع بين قارتي أوروبا وآسيا.
– منطقة شمالي إفريقيا التي تشكل الحزام الجنوبي للبحر المتوسط وتفصل قارة أوروبا عن إفريقيا.
– منطقة غربي آسيا أو الشرق الأوسط التي تربط آسيا بإفريقيا من جهة، وتربط آسيا بأوروبا من جهة أخرى[99].
وتقع دول شمالي إفريقيا ضمن سيناريوهات التوسع المحتمل للاتحاد الأوروبي بما يدل على الأهمية التي تحملها هذه الساحة الانتقالية بين القارات، وإن جهود التوسع التي كانت موجهة ضد المعسكر الذي شكله السوفيات في شرقي أوروبا، لم تقلل من اهتمام الاتحاد الأوروبي بشمالي إفريقيا الذي يعتبر حزاماً محيطياً قريباً من دول الاتحاد الأوروبي. وتركيا هي صاحبة أطول شريط ساحلي على البحر المتوسط، وهي دولة شرق متوسطية بالنسبة للحوض البحري القريب، ودولة متوسطية بالنسبة لاتصالاتها القارية. وتعتبر علاقات تركيا مع دول شمالي إفريقيا مهمة جداً، ليس من ناحية الروابط التاريخية أو الحنين إلى الماضي وحسب، بل بسبب الروابط القارية القريبة كذلك، وكما تمت محاولة إبعاد تركيا عن شرقي أوروبا عن طريق تنحيتها عن الدخول في الاتحاد الأوروبي، فإنها ستتعرض إلى ضعف جدي في هويتها كدولة متوسطية إذا ما انسلخت عن شمالي إفريقيا بفعل تأثير الاتحاد الأوروبي المتجه إلى هذه المنطقة في موجة استعمارية جديدة. وإذا أرادت تركيا أن تكون صاحبة كلمة في توازنات البحر المتوسط، يجب عليها أن تبني جسراً استراتيجياً بين سياساتها حيال شرقي المتوسط والشرق الأوسط في الحوض القريب منها، وبين سياساتها البلقانية الأدرياتيكية التي تعتبر جزءاً من سياساتها في المناطق البرية القريبة، وأن تدعم رؤيتها الاستراتيجية هذه بسياسات متجهة نحو شمالي إفريقيا ووسط البحر المتوسط[100].
استنتاج:
إن الموقف التركي الرافض لتدخل مجلس الأمن وحلف الأطلسي عسكرياً في ليبيا، يجد أساسه المتين ليس في المواقف المبدئية التي أعلنها أردوغان، بما يشكك بالنيات الحقيقية للقوى الغربية الداعمة للثوار، رابطاً القرارات الدولية بالمصالح الاقتصادية. بل إن شمالي إفريقيا بالنسبة إلى النظرة الجيوبوليتيكية الجديدة المعتمدة في أنقرة، تمثل واحدة من مناطق التأثير بين القارات، التي لا يمكن لتركيا التخلي عنها، وخاصة أنها تنتمي إلى المجال العثماني السابق، إضافة إلى رصد أكثر من محاولة أوروبية، وفرنسية بالأخص، لاستعادة هيمنتها على هذه المنطقة، مع استبعاد تركيا عن شرقي أوروبا، بعرقلة انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. وإذا كان الدفاع عن الحدود التركية الحالية لا بد أن يبدأ في الدوائر الأبعد، كما يقول وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، وليس عند الحدود نفسها، فإن الدفاع عن الاستقرار في جوارها الجنوبي، أي سوريا، يبدأ من ليبيا المتشابهة من حيث نظامها الشمولي، مع ملاحظة أن أردوغان دعا منذ اللحظة الأولى لاندلاع المعارك في ليبيا إلى الحفاظ على وحدتها، وكأن تدخل حلف الأطلسي يؤدي حكماً إلى الانقسام بين شرق وغرب. ثم إن تركيا ترفض إقرار سابقة خطيرة وهي التدخل الدولي الإنساني في كل دولة يقع فيها الصدام بين الشعب والنظام، فإذا كان ذلك مستساغاً في ليبيا البعيدة، فهل يكون مقبولاً في سوريا؟ وإذا حدث في سوريا، فلماذا لا يحدث أيضاً في تركيا إذا تحركت الأقليات الكردية والعلوية؟ ولو مضينا في هذا المسار التحليلي، نصل إلى خلاصة واحدة، وهي أن تركيا أردوغان تدافع عن نفسها في ليبيا، حين ترفض التدخل العسكري فيها، وتطرح الحوار بين النظام والثوار كبديل عن الحسم العسكري الأكثر كلفة.
الفصل الرابع: سيناريوهات الأزمة
إن تعارض مصالح القوى الدولية والإقليمية في ليبيا، وبالتطابق مع المميزات الجغرافية، هو ما جعل الحسم العسكري بطيئاً حتى مع تدخل حلف الأطلسي ضد نظام القذافي، تحت عنوان حماية المدنيين في المدن المهدّدة أو المحاصرة. فالمسافات الصحراوية الشاسعة بين معاقل الثوار في الشرق وقواعد النظام في الغرب والجنوب، منحت القذافي نوعاً من الحصانة الجغرافية نسبياً، لكن في الوقت نفسه، منعته من تحقيق نصر سريع ضد الثوار في الشرق، فوقعت كتائبه في فخ الضربات الجوية أكثر من مرة، وهو ما أوصل الحراك العسكري إلى الجمود في خليج سرت، أو ما يسمى بالهلال النفطي، في حين أن الطبيعة الجبلية في معاقل ثوار الغرب، جنوبي طرابلس، قد وفرت حماية نسبية للسكان الثائرين، وجعلت من المنطقة التي كانت قاعدة المجاهدين ضد الاحتلال الإيطالي مطلع القرن العشرين، نقطة انطلاق لمحاصرة النظام في الغرب، ثم الانقضاض عليه، ما يعني أن المعركة الحاسمة تكمن هناك، بحسب معطيات الجغرافيا.
يضاف إلى ذلك، أن القرار الدولي لم يتضمن الهدف النهائي من حظر الطيران فوق ليبيا، بل هو يدعو إلى حل سياسي، كما بقيت حدود استخدام القوة لفرض هذا الحظر غامضة. وقد استغلت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، هذا الغموض الذي هو نتيجة الآراء المتناقضة للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، لا سيما معارضة الصين وروسيا لأي تدخل عسكري في الشؤون الداخلية الليبية، من أجل تنفيذ ضربات خاطفة ضد الدبابات الليبية المحيطة ببنغازي بعد أن قامت بالالتفاف السريع حول أجدابيا. ولاحقت الطائرات الغربية كتائب القذافي المتحلّقة حول أجدابيا، مع أن ذلك ليس له علاقة مباشرة بالقرار المذكور، كما يقول الخبير الاستراتيجي الأمريكي أنتوني كوردسمان، حيث يبدو أن كل طرف في هذا النزاع يطبق القرار الدولي وينفذه حسب تفسيره الخاص، فثمة تنافس إيطالي فرنسي على النفوذ والبروز، فيما عارضت تركيا المهمة الملقاة على عاتق الناتو، وقامت الولايات المتحدة بقيادة الحملة واقعياً لقدرتها الذاتية على تنسيق الجهود، مع تمتعها بالمعلومات الاستخبارية الكافية، والقدرة على الاستهداف والقيادة والتحكم، لكن بذلت جهدها لتكون غير مرئية، وهي إلى ذلك غير مُقنعة تقريباً في زعمها أن حظر الطيران هو لحماية المدنيين وليس لتغيير النظام بالقوة[101].
وإذا كان لكل دولة مشاركة في الحملة رؤيتها الخاصة للأهداف المفترضة، وحدود استخدام القوة، وكلهم تقريباً يفضّل ذهاب القذافي، لكن لا أحد يريد الحديث عن استهداف القذافي مباشرة، وتدمير قواته، وتقويض إرادة التأييد له بين السكان الموالين له، أو ما هي شروط إنهاء حظر الطيران أو استخدام القوة. وهناك نقاش آخر عن الثوار، وعدم توحدهم، وعدم إمكانية تقدير قوة فصائلهم، أو ماذا يريدون، وما هو المطلوب لمنحهم القدرة على الدفاع عن مناطقهم أو إزاحة القذافي من الحكم.
ويرى أنتوني كوردسمان أن لأزمة ليبيا ثلاث سيناريوهات رئيسية:
1- سيطرة الثوار على الحكم.
2- سيطرة القذافي على الموقف.
3- الجمود العسكري بين القذافي والثوار.
– في الحالة الأولى، يقوم الائتلاف الهش من الثوار، والمستقلين، والموالين سابقاً للقذافي، وهو لا يملك خبرة سياسية، بالسيطرة على الحكم، حيث العجز شبه كامل عن توقع النتائج والآثار. ولنجاح هذا السيناريو، على الناتو أن يتخطى الفرض الحرفي لحظر الطيران، إلى مهاجمة كتائب القذافي وبنية النظام نفسه، في حين أنه لم تنضم وحدات عسكرية كاملة إلى صفوف الثوار، ولم يشكلوا قوة عسكرية متماسكة، ويفتقرون إلى الانضباط والهيكيلية، ولا يحظون بإمدادات كافية، ولا هم مدرّبون على استخدام الأسلحة الحديثة، ويفتقرون أيضاً إلى دعم القبائل الرئيسية خارج المدن في الشرق. وإن لم يؤلفوا قوات عسكرية مع الوقت بدعم خارجي أو انشقاق عسكري كبير داخل النظام، فلن يصلوا إلى السلطة إلا في حالتي الانهيار الداخلي لسلطة القذافي أو بتأثير من الضربات الاطلسية التي تستخدم القرار الدولي لا كتفويض، بل كغطاء لما هو أوسع من حظر الطيران وحماية المدنيين. وإذا حدث هذا، فسيرث الثوار دولة فقيرة واقتصاداً مشوهاً وإدارة حكومة معطّلة ومرتبطة كلياً بموارد النفط والاستثمار الخارجي، حيث تؤكد تقارير السي آي إيه بنهاية عام 2010، أن الصادرات تمثل 95% من موارد ليبيا، و25% من الإنتاج المحلي الإجمالي، و80% من موارد الدولة، ولدى ليبيا 107,3 مليار دولار من الذهب والعملات الصعبة، وهناك 15,3 مليار دولار من الاستثمار الخارجي، و6,4 مليار دولار من الديون، ولأن ليبيا تستورد معظم ما تحتاجه من غذاء، فإن الحفاظ على المعطيات الاقتصادية السابقة هو أمر حيوي.
– في الحالة الثانية، أن يفشل الثوار في تنظيم صفوفهم وتوحيد جهودهم، فيستعيد القذافي سيطرته على ليبيا، لا سيما إذا بقي التطبيق الحرفي للقرار الدولي فلم يتمكن الثوار من النجاة فضلاً عن ربح المعركة، إذ يمكن للقذافي أن يستخدم قواته الصغيرة والمجهّزة بشكل أفضل والأكثر انضباطاً، للفوز في الميدان، من دون استخدام الطيران، كما يمكن أن ينهار الثوار في حالة ذعر مفاجئ، أو حدوث انشقاقات داخلية، فضلاً عن أنهم بحاجة إلى مدرّبين من الخارج وإلى أسلحة، لكن قد لا تكون حزمة السياسات المعتمدة منهم تسمح لهم بذلك، كما أنهم قد لا يتمكنون من استخدام السلاح المستورد بفعالية، حتى لو كانت قوات القذافي في الميدان مجموعات صغيرة من كتائب أكبر، ومؤلفة أساساً من المشاة الخفيفة أو قوات الأمن. وإذا تدخلت قوات حفظ سلام، أو جرى اتفاق سياسي ما بين النظام والثوار، فقد يقرّر القذافي أن الانتقام ممكن في أي لحظة، فينجح في تقويض الثوار منهجياً، عبر زرع الانقسام بين فصائل الثورة ورشوة زعماء القبائل.
– وفي الحالة الثالثة، أن تنقسم ليبيا لوقت غير معلوم إلى منطقتين متصارعتين، وما بينهما جبهة حرب أو خط وقف إطلاق نار، وصراع سياسي واقتصادي مع فترات عنف. وعليه، سيكون صراع داخلي وخارجي، من أجل النفوذ والسلطة والمال، وهذا متعلق أساساً بمن يسيطر على المنطقة النفطية، وسيصبح القرار الدولي مصدر الانقسام الدائم حيث يحاول كل طرف الحصول على الدعم، وسيصبح الاستثمار في ليبيا وجهود الدعم ذات مخاطر مفتوحة، وسيكون للإرهاب احتمال أقوى، مع سباق بين الطرفين بحثاً عن السلاح والمساعدة من الخارج، كما تتصارع القوى الخارجية لكسب النفوذ وسط منطقة مضطربة، وخاصة عقب التغيرات في تونس ومصر.
وإذا لم يحدث الانهيار السريع لأحد طرفي الصراع، لأسباب سياسية أو عسكرية، فإن السيطرة على صادرات النفط والاستثمارات ومخزون العملات الصعبة ستصبح مهمة حساسة لشراء الطعام والسلاح واستيراد الجنود، كما لكسب الولاء والدعم الشعبي، لا سيما في أوساط المجندين والمتطوعين في بلد كانت تبلغ فيه البطالة قبل الحرب 30%، وهذه النسبة أعلى بالنسبة للشباب حيث معدل العمر في ليبيا يبلغ 24 سنة فقط. وبدلاً من العيش برفاهية النفط ستشهد ليبيا أزمة غذاء كبيرة، ومن غير المعلوم بدقة حجم المال والموارد التي ستؤثر على الصراع المسلح وعلى المرحلة التالية له، لذلك فإن الإرادة السياسية لكل طرف ومدى قدرته على إدارة المعارك، لا يمكن التنبؤ بهما، كما تحديد القدرات العسكرية مستقبلاً مع وجود العقوبات الدولية. لكن من المهم معرفة حجم التأثير الذي ستحمله السيطرة على موارد النفط وعلى القدرات المالية على نتيجة الصراع. من جهة، إن العقوبات المالية على القذافي ستنال من قدرة الحركة لديه بسرعة مع نفاد مخزون الطعام، وهو إلى ذلك يحتاج إلى شراء السلاح، وعليه أيضاً أن يشتري الولاء، وسيكون المال عاملاً حاسماً إذا ما استمر الجمود العسكري، وهو يثير مشكلات متفاوتة لدى النظام والثوار. والسؤال هو كم يسيطر القذافي على موارد مالية مخزونة رغم العقوبات الاقتصادية، وكم هي فعّالة هذه العقوبات، ومدى إمكانية حصول الثوار على جزء من الأرصدة الخارجية على الأقل[102].
شكل 6: مواقع آبار النفط والغاز
استنتاج
إن مصير الأزمة في ليبيا بات في أيدي القوى الخارجية إلى حد كبير، أي أن مفاتيح الحسم موجودة خارج ليبيا وليس داخلها، وحتى إن مصراته وهي أكبر مدينة يسيطر عليها الثوار في الغرب، تعتمد في صمودها على بقاء مينائها مشرّعاً على المساعدات الإنسانية والعسكرية على حدٍّ سواء، وبدعم من قوات الحلف بحراً. فالقذافي يحتاج إلى دعم حلفائه العلنيين والسريين لإمداده بشرايين الحياة، من سلاح ورجال وخبرات، كما أن الثوار بحاجة إلى حلفائهم في الخارج، لإمدادهم بالمال والسلاح والتدريب والدعم، كما تأمين الغطاء الجوي وحماية المدن الشرقية، وفتح ممرات آمنة إلى المحاصرين في المدن الغربية. وما دام الأمر على هذا المنحى، فإن قرار الحسم النهائي وإزاحة القذافي مرتبط حالياً بمصالح القوى الخارجية أكثر منه برغبة الثوار في الداخل، وهذا في المدى المنظور، باعتبار أن قدرات الثوار في ازدياد، وقدرات النظام في تناقص، بسبب خروج معظم حقول النفط عن سيطرته. وسيبقى الجمود قائماً والتوازن قلقاً، إلى أن تتغير المعادلات الميدانية في جبهات الغرب، مثل فك الحصار البري عن مصراته والتحامها بمناطق أخرى، حول طرابلس، فينقلب الميزان العسكري لمصلحة الثوار، وحين ذلك، تتهاوى احتمالات الانقسام الجغرافي والسياسي، وتتغير بالضرورة المواقف الغربية المتردّدة، التي تسعى للتنافس على المكاسب وحصد النتائج، أو ينجح القذافي في إقفال ميناء مصراته، وتعجز الدول الأوروبية عن التدخل في الوقت المناسب لإنقاذ المدينة من السقوط.
والمفارقة، أن سقوط مصراته حتى لو شكّل نكسة معنوية لحلف الأطلسي واستراتيجيته، لا سيما بالنسبة لفرنسا وبريطانيا، وبنسبة أقل للولايات المتحدة وإيطاليا، فإن السقوط بحدّ ذاته، يفتح المجال لحل سياسي يقوم على التقاسم الفعلي لليبيا بين الثوار والنظام، فيكون الشرق لبنغازي والغرب لطرابلس، بل إن دول الحلف قد تدفع نحو حل سلمي إذا خشيت السقوط الوشيك لمصراته، وذلك للتخفيف من خسائرها هي على أكثر من صعيد، أو تندفع لتنفيذ تدخل بري عسكري إنساني، لإبقاء شريان الحياة للمدينة، ومنع القذافي من حصارها وخنقها. والاحتمال الأول، هو ما دفع المجلس الوطني الانتقالي إلى التمهيد لتدخل بري أطلسي في مصراته، لأن أي حل سياسي مع النظام، يعني بقاء الانقسام الحالي كأمر واقع، كما يعني بقاء خطر القذافي قائماً ضد الثورة في الشرق[103].
ولعل استهداف القذافي شخصياً بغارات الأطلسي، يقصد إنهاء الأزمة الراهنة بسرعة، وإذ ذاك تنهار أجهزة النظام معنوياً بنسبة عالية، وإن كانت مفاصلها الأساسية يتحكّم بها أبناؤه. وربما تكون إزاحة القذافي نفسه، طريقاً للحل السلمي أكثر منه للحسم العسكري، ما دام زمام الأمور يبقى بيد الحلف نظرياً وعملياً، أكثر مما هو بيد الثوار أنفسهم.
وعليه، فإن وحدة ليبيا ترتبط بقدرة الثوار على الانفتاح السياسي والحسم العسكري كفرسيْ رهان، أيهما يسبق الآخر، أو ربما يصلان معاً إلى نهاية الشوط. أما الاعتماد الكامل على حلف الأطلسي، بشأن حسم الصراع، سواء بتسليح الثوار أو بالتدخل البري حتى لو كان إنسانياً، فإن ثمة مخاوف من تنازع المصالح بين الدول المشاركة في “فجر الأوديسا”، وبينها وبين الدول المعارضة للحلف، إقليمياً ودولياً، والتي ستسعى لزعزعة الاستقرار حتى لو انهار النظام، مع بقاء نواة قَبَلية وجهوية، تمتلك المال والسلاح، حيث ستكون بالضرورة خارج إطار الدولة الجديدة.
والأرجح، مع لحاظ كل المعطيات السابقة، أن يتمكن الثوار من إزاحة القذافي عن طرابلس الغرب، حتى دون الحاجة إلى تدخل بري أطلسي، فالاستنزاف الجغرافي يصيب النظام باطراد في الغرب، في حين أن الاستنزاف الاقتصادي غير معلوم بدقة، ولا يمكن التعويل عليه وحده لإلحاق الهزيمة به. لكن إمكانيات قيام ليبيا كدولة جديدة قوية وغنية ومستقرة، فليست مضمونة في المدى المنظور، بسبب احتمالات الفشل في احتواء القوى الموالية للنظام بعد سقوطه، وبسبب تدخلات القوى الإقليمية والدولية، التي ستسعى لتخريب ما كسبته القوى المنضوية في حلف الأطلسي، لا سيما فرنسا وبريطانيا.
[2]– http://daccess-dds-ny.un.org/doc/UNDOC/GEN/N11/268/39/PDF/N1126839.pdf?OpenElement
[3]– النظام الفدرالي يُعنى بتوزيع السلطات بين المركز والمقاطعات بما هو أكثر توسعاً من اللامركزية الإدارية دون الوصول إلى الاستقلال القانوني للولايات، أما النظام الكونفدرالي فهو رابطة قانونية تجمع بين دول مستقلة، حيث يكون المركز أكثر ضعفاً بكثير. للمزيد:
http://ejabat.google.com/ejabat/thread?tid=2288334ad3e20daf
[4]– جمال حمدان، الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى، دراسة في الجغرافيا السياسية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1996، ص11.
[5]– المصدر السابق، ص98-99.
[6]– المصدر السابق، ص157-159.
[7]– المصدر السابق، ص160، ويلاحظ أن الانقسام السياسي الآن يتطابق مع الانقسام الجغرافي، فبرقة والكفرة انضمتا إلى الثورة، وطرابلس (جزئياً) وفزان مع القذافي.
[8]– المصدر السابق، ص160.
[9]– المصدر السابق، ص162.
[10]– المصدر السابق، ص173.
[11]– المصدر نفسه، ص25-27.
[12]– المصدر نفسه، ص29.
[13]– المصدر السابق، ص30.
[14]– المصدر السابق، ص31.
[15]– المصدر السابق، ص32-33.
[16]– المصدر السابق، ص34-35.
[17]– المصدر السابق، ص36.
[18]– المصدر السابق، ص38.
[19]– المصدر السابق، ص64.
[20]– المصدر السابق، ص66.
[21]– المصدر السابق، ص67.
[22]– المصدر السابق، ص68-69.
[23]– المصدر السابق، ص69-70.
[24]– المصدر السابق، ص73-74.
[25]– المصدر السابق، ص76-77.
[26]– المصدر السابق، ص79.
[27]– المصدر السابق، ص80.
[28]-المصدر السابق، ص81.
[29]– المصدر السابق، ص187.
[30]– المصدر السابق، ص174-175.
[31]– المصدر السابق، ص81-83.
[32]– المصدر السابق، ص190.
[33]– المصدر السابق، ص190-191.
[34]– ولد معمر القذافي في الهلال النفطي، في منطقة سرت، وعاش لدى أخواله في سبها عاصمة فزان، للمزيد:
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%B9%D9%85%D8%B1_%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B0%D8%A7%D9%81%D9%8A
[35]– المصدر السابق، س90.
[36]– المصدر السابق، ص93، وذلك بغض النظر عن حقيقة هذا الانقلاب العسكري الذي قام به القذافي ورفاقه، وسُمّي بعد ذلك بالثورة، على عادة الانقلابات العربية في القرن الفائت. والمقصود هو وجود أيديولوجية عابرة للحدود الوطنية، وكانت القومية العربية هي الرائجة، ومطية كل طارئ.
[37]– المصدر السابق، ص175.
[38]– المصدر السابق، ص100-101.
[39]– المصدر السابق، ص134.
[40]– روى محراب الدين ماستان، أحد مساعدي أحمد شاه مسعود، دور ليفي في مناصرة القضية الأفغانية ابتداء من عام 1981، لكن من بوابة الجمعية الإسلامية وزعيمها برهان الدين رباني، والقائد الميداني أحمد شاه مسعود، وليفي الذي شارك في حرب الانفصال عن باكستان إلى جانب بنغلادش عام 1971، بذل جهوداً كبيرة لتعريف أوروبا بقضية الأفغان، ومن تأسيسه لإذاعة كابول الحرة أثناء الحرب مع السوفيات، إلى عقد علاقات وثيقة مع معسكر مسعود، ومعه شخصياً، محاولاً مساعدته للحصول على الدعم الأوروبي والفرنسي ضد حركة طالبان، للمزيد:
http://www.bernard-henri-levy.com/1981-2003-un-ami-de-lafghanistan-par-mehrabodin-masstan-10651.html
[41]– يروي الطبيب الجراح وسكرتير منظمة أطباء بلا حدود، ريتشارد روسين، قصة دخول ليفي إلى إقليم دارفور بمرافقة عناصر من حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور، الذي يطالب بدولة علمانية في السودان، والذي زار إسرائيل عام 2009 طالباً دعمها ضد الخرطوم. وكان لليفي علاقات قديمة مع جنوبي السودان وحركة الانفصال فيها، للمزيد:
http://www.bernard-henri-levy.com/2007-au-coeur-du-darfour-par-richard-rossin-10351.html
[42]– كتب الجنرال البوسني في منطقة سراييفو يوفان ديفياك، عن دور ليفي في مناصرة قضية البوسنة والهرسك أثناء حصار العاصمة البوسنية بين عامي 1992 و1995، حيث يقول إن ليفي كان يقارن بين أزمة الشعب البوسني وأزمة الشعب اليهودي في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، للمزيد:
http://www.bernard-henri-levy.com/1992-1995-la-verite-de-la-bosnie-herzegovine-dite-a-travers-l%E2%80%99oeuvre-ecrite-et-publique-du-philosophe-et-ecrivain-francais-bernard-henri-levy-par-le-general-jovan-divjak-10779.html
[43]– يهرع ليفي إلى إسرائيل كلما وقعت حرب في المنطقة متضامناً معها، وزارها مرات عدة والتقى مع كبار قادتها، وفي عام 2002 نال دكتوراه فخرية من جامعة تل أبيب، للمزيد:
http://bernard-henri-levy.com/1967-a-nos-jours-la-solidarite-avec-israel-par-laurent-david-samama-10218.html
[44]– يسرد الكاتب الجزائري محمد سيفاوي، المواقف المبكرة لليفي منتقداً الحركات الإسلامية، معتبراً إياها نوعاً من الفاشية الجديدة، كما تضامن مع سلمان رشدي صاحب كتاب “آيات شيطانية”، للمزيد:
http://bernard-henri-levy.com/1997-a-nos-jours-islamisme-le-troisieme-fascisme-par-mohamed-sifaoui-10215.html
[45]– الصحافي عارف جمال الذي تعرف عن كثب على ليفي، روى قصة التحقيق الموسع الذي أجراه ليفي في باكستان وبريطانيا، ثم وضعه في كتاب يحمل العنوان التالي: “من قتل دانيال بيرل؟”، وفيه، يسلّط ليفي الضوء على دور باكستان المنسي برأيه في نشأة الحركات الجهادية في باكستان وأفغانستان، وكان ليفي قد عرف بقتل بيرل أثناء وجوده في مكتب حامد كرزاي في كابل، فتعهد بالعمل على إجراء التحقيق بنفسه.
http://www.bernard-henri-levy.com/2003-sur-les-traces-de-daniel-pearl-par-arif-jamal-10211.html
[46]– Time, April 13, 2011.
http://newsweek.com/2011/04/03/nicolas-sarkozy-s-war-on-gaddafi-influenced-by-philosopher-bernard-henri-levy.html
[47]– Paul-Eric Blanrue, Sarkozy, Israel ,les juifs, marco pietteur, juin 2009, p.25.
وهذا رابط الكتاب (ساركوزي، إسرائيل واليهود): http://www.mediafire.com/?mj4mjowtwij
[48]– Ibid, p.26
[49]– Ibid, p.27
[50]– Ibid, p.29.
[51]– Ibid, p.74.، حيث جاء أنه في آخر شهر آذار (مارس) من عام 2007، وقبيل الانتخابات الرئاسية، أطلق أحدهم على الشبكة الإلكترونية رسالة إلى مسؤولي الأمن الفرنسيين، عن تجنيد الموساد لساركوزي عام 1980، وذلك حين قررت حكومة مناحيم بيغن عام 1978 اختراق حزب التجمع من أجل الجمهورية، وكان ساركوزي هو الرجل الرابع من رجال الموساد في هذه الشبكة.
[52]– عن مغزى هذا، وعلاقته بتأييده لليهود، قال ساركوزي في حزيران (يونيو) 2008، وفي قاعة فندق الملك داود في القدس للحضور الإسرائيلي: “إن اليهودية تنتقل عبر النساء، وجدي كان يهودياً تزوج كاثوليكية، إذاً أنا لست غير يهودي بالمرة، لكن محبتي لإسرائيل لا تأتي من هذه الناحية، بل إني أعتقد أن أوروبا كانت مسرحاً لجريمة همجية لا مثيل لها عبر إبادة اليهود، ومنذ تلك الحادثة ونحن مسؤولون عن وجود إسرائيل. فأن يكون جدي يهودياً أو لا، لا علاقة للأمر باعتقادي هذا”،Ibid, p.49-50.
[53]– Ibid, p.51.
[54]– Ibid, p.54.
[55]– Ibid, p.55,57.
[56]– Ibid, p.59,61.
[57]-Ibid, p.79.، حيث قام وزير الأمن العام الإسرائيلي والمفوض الأعلى للشرطة في إسرائيل، بزيارة فرنسا لأربع أيام حيث تمّ التداول في القضايا الأمنية مع مسؤولي الأمن الفرنسيين.
[58]– Ibid, p.63,64.
[59]– Ibid, p.66.
[60]– Ibid, p.70.
[61]– MARCEL H. VAN HERPEN, THE FOREIGN POLICY OF NICOLAS SARKOZY: NOT PRINCIPLED, OPPORTUNISTIC AND AMATEURISH, CICERO FOUNDATION GREAT DEBATE PAPER, No. 10/01, February 2010.
Klik untuk mengakses Marcel_H_Van_Herpen_FOREIGN_POLICY_SARKOZY.pdf
[62]– بيرم فاطمة، أبعاد السياسة الخارجية الفرنسية إزاء المغرب العربي بعد الحرب الباردة، رسالة ماجيستير في العلوم السياسية، جامعة الحاج لخضر، باتنة، السنة الجامعية 2009-2010، ص8-9.
[63]– المصدر السابق، ص9.
[64]– المصدر السابق، ص19.
[65]– المصدر السابق، ص20.
[66]– المصدر السابق، ص21.
[67]– المصدر السابق، ص24.
[68]– المصدر السابق، ص27-28.
[69]– المصدر السابق، ص29-31.
[70]– المصدر السابق، ص31.
[71]– المصدر السابق، ص32-38.
[72]– المصدر السابق، ص112.
[74]– المصدر السابق، ص 190.
[75]– MARCEL H. VAN HERPEN, THE FOREIGN POLICY OF NICOLAS SARKOZY: NOT PRINCIPLED, OPPORTUNISTIC AND AMATEURISH, CICERO FOUNDATION GREAT DEBATE PAPER, No. 10/01, February 2010.
[76]– http://www.americanprogress.org/issues/2010/07/understanding_turkey_today.html
ومقال آخر يشرح دوافع الموقف التركي من ثورات العرب:
Understanding Ankara – Turkey’s Resurgence Amidst Regional Unrest
Sabahat Khan, Analyst, INEGMA, Apr 07, 2011.
[77]– أعلن أردوغان خلال ندوة متفلزة في أنقرة خارطة الطريق لليبيا على الشكل التالي:”أولاً، يجب إعلان وقف فوري وحقيقي لإطلاق النار، ويجب أن ترفع قوات القذافي الحصار المضروب على بعض المدن والرحيل عنها.
ثانياً، إقامة ممرات آمنة لتقديم المساعدات لكل الليبيين.
ثالثاً، بدء عملية تغييرات ديمقراطية وشاملة.
وأضاف: “يجب اتخاذ خطوات صلبة وفورية في اتجاه إجراء تغييرات سياسية دستورية بعد إقرار حقيقي لإطلاق النار”.
http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2011/04/110401_turkey_erdogan_libya.shtml
[78]– أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي، موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، الدار العربية للعلوم ناشرون، ومركز الجزيرة للدراسات، الطبعة الثانية، 2011، ص67.
[79]– المصدر نفسه، ص68-69.
[80]– المصدر نفسه، ص75-76.
[81]– خسرت الدولة العثمانية بلغاريا عام 1893.
[82]– المصدر نفسه، 76.
[83]– استخدم نظام الخميني بعد ثورة 1979، شعار الوحدة الإسلامية كأداة تكتيكية مماثلة لتوسيع نفوذ إيران خارج الحدود، ولفتح ساحات تأثير، وإيجاد مناخات ملائمة لنشر المذهب دون احتقانات كبيرة.
[84]– المصدر نفسه، ص89، 90، 91.
[85]– تراقيا هو إقليم فى جنوبي شرق أوروبا يشغل منطقة جنوبي شرق شبه جزيرة البلقان، ويشمل شمالي شرق اليونان، وجنوبي بلغاريا، وتركيا الأوروبية، وأهم مدنه إسطنبول، وأدرنة، وغاليبولي. استولى العثمانيون على كل الاقليم بعدما فتحوا القسطنطينية سنة 1453م، و بعد حروب البلقان استولت تركيا على شرقي تراقيا واستولت بلغاريا على غربي تراقيا. وفي الحرب العالمية الاولى احتلت اليونان جزءاً من تراقيا البلغارية ومعظم تراقيا، لكن شرقي تراقيا رجع إلى تركيا سنة 1923.
[86]– المصدر نفسه، 78.
[87]– تقع أرض روم في هضبة ترتفع نحو 1800م عن سطح البحر في هضبة الأناضول الشرقي، وهي أكبر مدينة في هذه الهضبة، وترتفع بعض أحيائها إلى 2000م فوق سطح البحر على نهر قره صوه أحد روافد الفرات الشمالية. وتبعد أرضروم نحو 150 كم إلى الشمال الغربي من بحيرة وان.
http://marefa.org/index.php/%D8%A3%D8%B1%D8%B6%E2%80%8C%D8%B1%D9%88%D9%85
[88]– المصدر نفسه، ص79.
[89]– المصدر نفسه، ص80.
[90]– المصدر نفسه، ص81.
[91]– المصدر نفسه، ص91.
[92]– هي حرب قامت بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية في 4 تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1853م، واستمرت حتى 1856م. ودخلت بريطانيا وفرنسا الحرب إلى جانب الدولة العثمانية في 1854م التي كان قد أصابها الضعف، ثم لحقتها مملكة سردينيا التي أصبحت فيما بعد 1861م مملكة إيطاليا. وكان أسبابها الأطماع الإقليمية لروسيا على حساب الدولة العثمانية وخاصة في شبه جزيرة القرم التي كانت مسرح المعارك والمواجهات، وانتهت حرب القرم في 30 آذار (مارس) 1856م بتوقيع اتفاقية باريس وهزيمة الروس هزيمة فادحة، ويقصد أوغلو هنا تحديداً الاستمرار بالاستعانة بالعدو البعيد الكامن ضد العدو القريب المؤثر. للمزيد:
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D8%B1%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D9%85
[93]– المصدر السابق، ص93-94، حتى إن تركيا سعت إلى دخول الاتحاد الأوروبي كما يقول أوغلو لأن اليونان سبقتها إليه.
[94]– المصدر السابق، ص172.
[95]– المصدر السابق، ص143.
[96]– المصدر السابق، ص144.
[97]– المصدر السابق، ص233-234.
[98]– المصدر السابق، 234.
[99]– المصدر السابق، ص234-235.
[100]– المصدر السابق، ص241-242.
[101]– ظهر الموقف الأمريكي متردّداً منذ البداية، وسارع أوباما إلى وقف المشاركة الفعالة في تنفيذ حظر الطيران فوق ليبيا، بمجرد تولي حلف الأطلسي المهمة، ولهذا التردّد أسباب شخصية وموضوعية، فأوباما لا يريد التورط في حرب أخرى وهو يحاول التخلص من عبء العراق وأفغانستان، ويستعد لإطلاق حملته الانتخابية لولاية ثانية، كما أن الولايات المتحدة تعاني من عجز ضخم في موازنتها السنوية ويريد أوباما تقليص النفقات العسكرية، لكنه في الوقت نفسه، قدّم أقل ما يمكن فعله تحت عنوان التدخل الإنساني، الذي بدأه سلفه الجمهوري جورج بوش الأب في الصومال عام 1991.
[102]– Anthony H. Cordesman, LIBYA: THREE POSSIBLE OUTCOMES AND THE ROLE OF GOVERNANCE, MONEY, GAS, AND OIL,
March 22, 2011, csis.org.
[103]– The Libyan Battle for Misurata: A Special Report, April 21, 2011, Stratfor.